فصنع هذه الفروع لمن كان له صنع الأصول، لا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه إلا بمكابرة فِطَر العقول، كما قال الله سبحانه: ? أفَرَأَيْتُم النَّارَ الَّتِي تُوْرُوْنَ، أأنْتُمْ أنْشَأتُمْ شَجَرَتَها أمْ نَحْنُ الْمُنشِئُوْنَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِيْنَ ? [الواقعة:71- 73]. فكل ما نبه به من هذا ودل عليه، فداعٍ من معرفته سبحانه إلى ما دعا إليه.
ومن ذلك أيضا، فقوله تبارك وتعالى: ? اعْلَمُوْا أنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيْنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? [الحديد:17]. فإذا كانت حياة الأرض بعد موتها موجودة، وميتتها التي كانت تُعلم قبل حياتها مفقودة، فلا بد اضطرارا ثابتا، ويقينا لا تدفعه النفوس بآتَّا، من إثبات مميتها ومحييها، إذ بَانَ أثر تدبيره فيها، بأكثر مما يعقل من الآثار، وأكبر مما تعرفه النفوس من الأقدار، مما لم يُر له في الحياة قط مؤثِّر، ولم يوجد له من المدبرين قط مدبِّر، إلا من يزعم أنه من الله لا منه، ومن يقر أنه منه يقر أنه من الله دونه، مثل المسيح بن مريم، وغيره ممن أعطيه من ولد آدم.
ومن تعريفه القريب، وتوقيفه العجيب، قوله سبحانه: ? قُل لِمَنْ الأرْضُ وَمَنْ فِيْهَا إنْ كُنْتُمْ تَعلَمُونَ، سَيَقُولُوْنَ للهِ قُل أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ? [المؤمنون:84- 85]. فلما كانت الأرض مملوكة ومن فيها، بما تبيَّن من أثر الملك عليها، ثبت مالكها عند معاينتها غير مدفوع، ووُجِدَ صانعها باضطرار غير مصنوع.
ومن توقيفه، أيضا وتعريفه، قوله سبحانه: ? قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيْمِ ? [المؤمنون:86]. فلما وُجِد ـ ما وقَّف الله سبحانه عليه من ذلك ـ مربوبا غير متمنع، بما تبيَّن فيه من شواهد كل مربوب متخشِّع، وُجِد ربها كلها بيقين مبتوت عند وجودها، وشهد له بالربوبية ما شهد بالصنع عليها من شهودها.(1/26)
ثُمَّ قال سبحانه لتوقيفه وتعريفه مرِّدداً، وعليهم بما لا تدفعه النفوس من الشهود مستشهدًا : ? قُلْ مَنْ بِيِده مَلَكُوتُ كُلِّ شَيٍء وَهْوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيهِ إِنْ كُنتُمْ تَعَلمُونَ ? [المؤمنون:88]. فلما كان كل شيء يُحس بحس، أو يُعقل إن لم يكن محسوسا بنفس، في قبضة محيطة به من قدرة وملكوت، بما لا يدفعه عن نفسه من بلاء أو موت، كان مليك الملكوت للأشياء كلها معلوما باضطرار، من يجير ولا يجار عليه إذ الملكوت كلها له غير ممتنعة منه بجار.
ومما يَقَّظَ به سبحانه لمعرفته، ودلَّ منه بأوضح دليل على ربوبيته، وما تفرد به من صنع البدائع، وتوحَّد بابتداعه من بدع الصنائع، قوله سبحانه: ? والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثُمَّ جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلاَّ بعلمه وما يُعمَّر من معمر ولا يُنقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ? [فاطر:11].
فلما أن كان خلق أبينا، الذي هو أول إنشائنا، وهو آدم، الأب المقدم، مما ذكر الله تبارك وتعالى أنه ابتدأه منه من التراب، كنا مخلوقين مما خُلِق منه وإن نحن جرينا بعده نُطَفاً في الأصلاب.
والدليل البتُّ اليقين، الشاهد العدل المبين، على أن آدم عليه السلام بُدئ من التراب وخلق، مصير نسله تراباً إذا بلي وفُرِّق، وكل مركَّب انتقض من الأشياء، فعاد إلى شيء عند تنقضه بالفُرقة والبلى، فمنه رُكِّب وخلق غير شك ولا امتراء، كالثلج والجليد، والبَرَدِ الشديد، الذي يعود كل واحد منهما إذا انتقض وفُرِّقَ، إلى ما رُكِّب منه من المياه وخُلِق، وكمركَّب الأشجار والحبوب وغيرهما من ضروب الأغذية، التي تعود عند بلائها إلى ما رُكِّبت منه من الأرضين والمياه والنيران والأهوية.(1/27)
وآدم عليه السلام في أنه من تراب - وإن كان كمالا وأباً - كأولاده، يجري عليه في أنه من ترابٍ ما يجري على أجزائه وآحاده، وما يعاين من معاد أنساله، التي هي أجزآؤه من كماله، إلى الرفات الجامد، والتراب الهامد، يلحق به مثله، إذ هم جزؤه ونسله، وما لحق بالأجزاء، من الموت والبِلاء، فلاحقٌ لا محالة بالكمال، والكمال والأجزاء فجارية منه على مثال، إذ كانت أشباهاً متماثلة، وأمثالاً لا يُجهل تماثلها متعادلة! وأما يقين خلقه إيانا سبحانه من نطفة، وما جعل منا أزواجا مختلفة، في الخلقة غير مؤتلفة، فمعايَنٌ فينا معلوم، لا تدفعه العيان ولا الحلوم. ألا ترى أن النطفة لو لم تكن لما كنتَ، ولو عَدِمتْ إذن لعَدِمْتَ. وما كان إذا عَدِمَ عَدِمْتَ، فمنه غير شك خلقت وقُوِّمْتَ. ألا ترى أن كون المرعى والأشجار، مما ينزل الله لها من المياه والأمطار، فإذا عدم الماء والمطر، هلك المرعى والشجر، أولا ترى أن كل ثمرة فمن شجراتها، فإذا عدمت الشجرات عدمت ثمراتها.
وما عجَّب الله به سبحانه من صنعه في تكثيره منه للقليل المفرد، ونشره تبارك وتعالى للكثير من واحد العدد، فأعجب عجاب، عجب له من خلقه أولو الألباب، بينا نحن تراب ميت إذ أحيانا، ونطفة واحدة إذ كثرنا فأثرانا، فجعل سبحانه منا بنطفة تمنى، ذكرا يعاين وأنثى، حكمة منه سبحانه لا عبثا، كما قال تبارك وتعالى: ? أيحسب الانسان أن يترك سد ى، ألم يكُ نطفة من مني يمنى، ثُمَّ كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ? [القيامة 36ـ 40].
فصرَّفنا بعد خلق خلقا، ترابا ثُمَّ نطفة ثُمَّ تارة عَلَقا، تصاريف لا يدَّعي على الله فيها مدعٍ دعوى، فيعلن بدعواه فيها ولا يسر بها نجوى، تبريا إلى الله الخالق منها، وتضآؤلا في جميع الأشياء عنها.(1/28)
وكل هذه التصاريف فلا بد لها من مصرِّف، وما عُدّد من شتيت الأصناف فلا بد لها من مصنِّف، لا تدفع الألبابُ وجوده، ولا يُكذِّب إلا كاذبٌ شهودَه.
وما ذكر سبحانه من حمل كل أنثى ووضعها بعلمه، فما لا ينكره أحد وهبه الله حكمة من حِكَمِه، وما لا يأباه منقوص بعد التقرير إلا بمكابرة منه لعقله، مع الاقرار منه لنا صاغرا راغما بمثله، وإذا كان بمثله مقرا، كان بإنكاره له مكابرا، بل يعطى فيأبى، إلا مجانة وألعابا، إنما هو أصغر صغرا، وأيسر أضعافا قدرا، من حمل الأنثى ووضعها، وتأليف أعضاء الولدان وجمعها، وما فيها من حسن التصوير، وداخل معها في لطيف التدبير، لا يقوم معتدلا، ولا يبقى متصلا، طَرْفَ عين، بأيقن يقين، إلا بعلم من عليم، وتدبير متقَن من حكيم، لا تُلِمُّ به سنة ولا نوم، ولا تنازعه الأشغال ولا الهموم.(1/29)
وكذلك تعمير المعمَّر، وما ينقص له من عمر، فلا يكون أبدا إلا في كتاب، إذ كانت الأيام والليالي بحساب، ولا يكون نقص العمر وزيادته، إلا لمن به قوامه ومآدته، ممن يدبر الأيام والليالي، ولن يوجد ذلك إلا عن الله الكبير المتعالي، ولا يكون كتاب ذلك الذي ـ هو علمه ـ على مَن وَسِعَ الأشياء كلها تدبيرا، إلا خفيفا ـ لا يؤوده حفظه ـ عليه تبارك وتعالى كما قال: يسيرا، ثُمَّ أخبر سبحانه صدقا، ونبَّأ في كتابه حقا، بقدرته على أن يخلق من الأشتات المختلفة، واحدا غير مختلف في الصفة، لأنه من قدر على خلق الأشتات من المؤتلف الذي لا يختلف، قَدَر على خلق الواحد المشتبه من الأشتات التي لا تأتلف، كخلقه سبحانه لأُحدان، ما خلق من الدر واللحمان، من مختلف البحار وأشتاتها، بأبين اختلاف من أُجاجها وفراتها. فجعل سبحانه منها، مع خلافه بينها، لحما واحدا مشتبها طريا، ولباسا واحدا من الدر حسنا بهيا، وحمل سبحانه على ظهورها، مع خلافه بينها في أمورها، الفلكَ المشحونَ السائرَ، وردها بعد التفريغ فيه مواخر، ليُعلِمَ ـ من عجيب تدبير أمرها، واختلاف الحال في مسيرها، إذ تسير شاحنة مالية، كما تسير ماخرة خالية، وإذ تسير بحاليها جميعا في أجاج البحار، كما تسير بهما في فرات الأنهار ـ أَن لها لمسيِّرا لا تختلف في قوته الأشياء، ومدبرِّا قويا لا تساويه الأقوياء، وأن تسييرها مقبلة ومدبرة، وشاحنة في البحرين وماخرة، إلى من يدبر ما سارت به من مختلف الرياح المسيَّرات، ومَنْ يملك ما جرت فيه من الماء الأجاج والفرات، ومن له مُلكُ ما لولا هو لم تكن الرياح الجاريات، ولم يوجد الملح من المياه ولا الفرات.(1/30)