وإن لم يكن يَدْرِ كَم المال الذي أخذ من أموال الناس، متفرقهم ومجتمعهم ونسي، وكثر ذلك عليه، فليتحرَّ ما لكل واحد على قدر مبلغ علمه ورأيه، ويحتط لنفسه، ويزيد على نفسه حتى يكون الغالب عليه في حكمه ورأيه، أن قد استغرق جميع حقوقهم، وأدى إليهم أموالهم وزاد، فإن النفقة له في ذلك. فإن زاد كان له أجره، وإن نقص قليلاً لم يضره، بعد أن يتعمد الوفاء. وذلك كله توبته إلى الله جل ثناؤه مما كان منه في ذلك، مِن أخذٍ وحبس عن أهله، وهو عنده بندم واستغفار، وعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك أبداً.
فإن كان صار إليه مال من ناحيةِ ظالمٍ غاصب، وهو به عالم بسبب معونة له في ظلمه، ودخول معه في غصبه، وأخذ ذلك هبة منه، وهو يعلم أن ذلك ظلم وغصب لغيره، فالتوبة مما أخذ من ذلك أن يخرجه من عنده، فيرده على أهله المغصوبين إياه، ولا يحل له أن يرد شيئاً من ذلك إلى الغاصب، لأنه ليس له.
وإن كان أنفقه وليس عنده شيء منه، كان ضامناً لرده - إذا أمكنه - على أهله، ويتوب إلى الله جل ثناؤه من إنفاقه.
وأما ما كان من الربا فالتوبة منه ما وصفنا من الندم والإستغفار، ويُخرج كلَ فضلٍ فوق رأس ماله، فيرده على ما وصفنا من رده على أهله إن عرفهم، وإلا فعلى ما وصفنا من رده، لكل ما لزمه رده.(1/281)


[التوبة من القتل والجراحات]
وأما ما كان من قتل فلا توبة لقاتل المؤمن حتى يندم على القتل، ويستغفر الله منه، ويعزم على أن لا يعود إلى قتل أحد أبداً ظلماً، ويُمكِّن أولياء المقتول المؤمن من نفسه صابراً محتسباً، يقول لهم:إنه قتل صاحبهم ظلماً وعمداً وعدواناً. فإن فعل ذلك فهو تائب لا شيء عليه من إثم القتل، فإن قتلوه تائباً - بحق هو لهم - فلا تبعة لهم عليه، ولا للمقتول لديه حق، وإن عفوا عنه فلهم أن يعفوا عنه، لأن الحق بعد المقتول لأولياء المقتول. ويعوض الله جل ثناؤه المقتول إذا كان مؤمناً صابراً. ألم تسمع إلى قوله جل ذكره كيف يقول :? ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا ? [الإسراء:33]. فقد سلط الله جل ثناؤه أولياء المقتول على القاتل، إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية.
وإن تاب فيما بينه وبين الله، ولم يُمكِّن أولياء المقتول من نفسه، لم يسعه ذلك ولم تقبل توبته، فإن لم يعرف أولياء المقتول عزم القاتل على أن يُمكِّن من نفسه أولياء المقتول متى عرفهم. يصنعون به مالهم عليه من القتل، أو الدية والعفو، ولا يدفع نفسه إلى سلطان، ولا إلى غيره، ولا يدفع نفسه إلا إلى أولياء المقتول.
وإن لم يتب إلى ربه جل ثناؤه، ويُمكِّن أولياء المقتول من نفسه، كان كما قال الله جل ثناؤه :? ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما ? [النساء:93].(1/282)


وأما ما كان من جراحات سوى القتل، مما يجب فيه القصاص، فإنه يتوب إلى الله جل ثناؤه - منها بالندم عليها، والعزم على أن لا يعود، ويُمكِّن من نفسه - بعد التوبة إلى الله جل ثناؤه مَن فَعَلَه به، وإن اقَتصَّ منه فلاشيء عليه، وإن عَفا عنه فذلك إليه، وإن كانت جراحات قد بَرِأَ منها أصحابها، ولم يكن أمكنهم القصاص من نفسه، فلم يعلم مقدارها لبرءٍ فلا قصاص عليه فيها، لأنه لا يعلم قدر ذلك، وعليه أرش الجراحات يقيمه عدل، يتوخى في ذلك الصواب، فيدفع ذلك إلى أصحاب الجراحات.
فإن لم يعرف أصحابها، دفع ذلك إلى ورثتهم الذين يقومون بذلك.
وإن كان لا يعرف أصحاب الحقوق، دفع ذلك القدر إلى المساكين، إذا قدر على ذلك.
وما كان من الجراحات مما لا قصاص فيه مما يكون فيه حكومة عدل، دفع إلى من صنع به ذلك إن كانوا أحياء، وإن كانوا أمواتاً دفع ذلك إلى ورثتهم، فإن لم يعرفهم ولا ورثتهم دفع ذلك إلى المساكين، إذا قدر على ذلك.
ويفعل في كفارة الخطأ كما أمره الله جل ثناؤه في كتابه، وكذلك في كفارة الظهار، فمن لم يقدر على شيء من ذلك، فالتوبة منه على ما أمر الله جل ثناؤه.
وأما ما كان من ضربٍ مما لا يكون القصاص فيه، فالتوبة فيه والإستغفار والندم، وأن لا يعود إلى مثله أبدا، ويُرضي أصحابها إن عرفهم ويتحللهم.
وأما ما كان من ظلم الناس نحو اغتياب وتجسس، أو سوء ظن بمؤمن، أو سعاية إلى ظالم، أو كذب عليه، فالتوبة إلى الله جل ثناؤه من ذلك، ويتحلل ذلك من أصحابه الذين فعل بهم، فإنه أحسن وأفضل، ويكون ذلك على أجمل الوجوه.
فإن لم يمكنه التحلل، ولم يفعله بعد أن يتوب إلى الله جل ثناؤه، رجونا أن لا يضره ذلك.
وكذلك إن أساء إلى مماليكه في تقصير في مطعم أو ملبس، مما لا يحل له أن يفعله بهم، أو عاقبهم عقوبة أسرف فيها، أو شتمهم بما لا يحل له، فليتب إلى الله جل ثناؤه من ذلك كله، وليتحلل من مماليكه.(1/283)


وإن استدان رجل مالاً ينفقه على نفسه وعلى عياله، بالقصد كما أمره الله جل ثناؤه، وكان عزمه أن يرده إذا أيسر، وأمكنه فمات قبل أن يؤديه، وليس له مال، ولم يترك وفاءً، فلاشيء عليه فيما بينه وبين الله جل ثناؤه وبين صاحب الدين، لأن الله العدل، الذي ? لا يكلف نفساً إلا وسعها ? [البقرة: 286]، و? ... إلا ما آتاها ? [الطلاق: 7].
فإن أخذ ديناً ونسي أن ليس عليه لأحد شيء، فلاشيء عليه عندنا، إذا لم يكن نسيانه ذلك من تشاغله بمعصية ربه.
فإن أخذ ديناً فلم يرده إلى أصحابه، حتى ماتوا فليؤده إلى ورثتهم، فإن لم يعرف لهم ورثة وانقطعت آثارهم، وانقطع ذكرهم، فليتصدق به على المساكين، وقد سلم من الإثم إذ تاب من حبسه، وقد كان يقدر على أدآئه.
فإن استقرض مالاً فأنفقه فيما يحل له ويحرم عليه، وكان من عزمه أن لا يؤديه إلى أهله ( فهو فاسق، وتوبته في ذلك الإستغفار والندم، ورده على أهله) إن كان يقدر عليه، وإن كان معسراً عزم على أدآئه إليهم إذا قدر عليه، وأشهد لهم بذلك على نفسه، إن أرادوا ذلك منه، فإن ماتوا ولم يكن لهم ورثة تصدق به عنهم، وإن كان محتاجاً أنفقه على نفسه وعياله، كما يتصدق به على غيرهم هذا إذا كان ضامناً له .(1/284)


وإن كان أخذ أموال الناس من طريق الدَّين، وكان شأنه أن لا يقضي ولا يؤدي، وجحد ذلك، ثم مات على ذلك، فأقام أصحاب الدَّين من بعد موته على ورثته البينة، أو عرف ذلك الورثة، فعليهم أن يؤدوه إلى أهله، والميت من أهل النار، ولا ينجيه من ذلك أداء ورثته عنه، لأنه اعتزم على أنه لا يؤديه، ومات غير تائب مصراً على أخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً فهو من الفاسقين. وإن لم يكن لهم بينةٌ، وعرف الورثة أن المال الذي خلف الميت إنما هو أموال الناس، وعرفوا ما عليه من الدَّين، لم يحل لهم ما أخذوا، لأنهم أخذوا ما ليس لهم من حقوق الناس. والسنة الماضية أنه لاشيء لوارث حتى يُقضى الدين، فإن لم يقضوه ولم يمكنهم وهم يعرفونه، كانوا من أهل النار، إذا ماتوا على ذلك مصرين ظالمين.(1/285)

57 / 201
ع
En
A+
A-