وقد بيَّن الله جل ثناؤه أن الفاسق اسم من أسماء الذنوب، لقوله :? بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ? [الحجرات:11]. ومن لم يتب من فسقه وظلمه، فهو من أهل النار ليس بخارج منها، ولكنه وإن كان في النار فليس عذابه كعذاب الكافر، بل الكافر أشد عذاباً.
فلا يغتر مغتر، ولا يتَّكل متَّكِل، على قول من يقول- من الكاذبين على الله وعلى رسوله، صلوات الله عليه وعلى أهله - أن قوماً يخرجون من النار بعد ما يدخلونها، يعذبون بقدر ذنوبهم. هيهات أبى الله جل ثناؤه ذلك !! وذلك أن الآخرة دار جزاء، والدنيا دار عمل وبلوى، فمن خرج من دار البلوى إلى دار الجزاء، على طاعة أو معصية، فهو صائر إلى ما أعد الله له خالداً فيها أبداً.
فاللهَ اللهَ في أنفسكم بادروا وجدوا، وتوبوا قبل أن تحجبوا عن التوبة. ومع ذلك فإن الأمة مجمعة على أن أهل الوعيد من أهل النار.
قال بعض الناس: إنما عنى بالوعيد المستحلين، وتواعد به المذنبين، ليزجرهم عن أعمال الفاسقين.
فقيل لهم: أفيجوز على أحكم الحاكمين، أن يوعد بعقوبة الكافرين، من ليس منهم من المذنبين، وهو يعلم أنه لا يوقع بهم ذلك يوم الدين ؟!
فهل يكون من الكذب، والهزل من القول ؟! إلا ما وصفهم به أرحم الراحمين، إذ كان يوعد قوماً بعقوبة قوم آخرين، لم يكونوا لمثل أعمالهم التي أوجب الله لهم العقوبة عليها عاملين.
وقال بعضهم: إن قوماً يخرجون من النار بعد ما يدخلونها.
فقيل لهم إذا اجتمعتم أنتم وأهل الحق على الدخول، ثم خالفتموهم في الخروج، فالحق ما اجتمعتم عليه من الدخول، والباطل ما ادعيتموه - بلا إجماع ولا حجة - من الخروج. والأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة، أو ترك طاعة فريضة كالصلاة والزكاة والصيام، من أهل الملة فهو فاسق.( فكلهم قد أقربأنه فاسق ) ( وهي مختلفة في غير ذلك من أسمائه.
فقال بعضهم: هو مشرك فاسق منافق. وقال بعضهم: هو فاسق كافر.(1/276)
وقال بعضهم: فاسق منافق. فكلهم قد أقر بأنه فاسق ) واختلفوا في غير ذلك من أسمائه. فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق، والباطل ما اختلفوا فيه. ففي إجماعهم الحجة والبرهان، نسأل الله التسديد والتوفيق، لما يحب ويرضى.
والأسماء في الدين والأحكام، عند ذي الجلال والإكرام، ليس لأحد من المخلوقين أن يضع اسماً وحكماً على أحد من العالمين، فيما هم به مأمورون وعنه منهيون، فمن استحل شيئاً من ذلك برأيه، عن غير كتاب الله جل ثناؤه، وسنة رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من الضآلين إذ كان عند الله كبيراً. لأن الحكم في ذلك كله لرب العالمين، لقوله جل ثناؤه :? إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ? [الأنعام:57].
وعلى العبد أن يتجنب الفاسقين، والمعونة لهم على فسقهم، والمجالسة لهم على لهوهم ومعاصيهم، وعليه أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لأن على كل مؤمن إذا رأى منكراً مما يجوز أن يغيره هو، أن يغيره بكل ما يقدر عليه ويحل له، وإن كان مما لا يجوز أن يغيره( إلا لإجماع المؤمنين بالتعاون، فعليهم وعليه أن يغيروا ) بكل إمكانهم، بالسيف إن لم يجز إلا بالسيف، وبما دون السيف إذا اكتفي به، وأدنى ذلك النهي باللسان. فإن لم يمكنه ذلك لتعبه لتخوفه الهلاك أو تقية، فإنكار ذلك بالقلب، والعزم على التغيير إذا أمكن الأمر. ولا يُترك صاحب المنكر حتى يتوب منه، أو يقام فيه حكم رب العالمين، ويُدارى أهل المنكر، ويوعظون بأرق الوجوه، فإن أبوا إلا المقام على المنكر، فإن قدر على إزالتهم عنه فلا يُؤخر ذلك، وإن لم يُقدر على إزالتهم جونبوا بمجانبة جميلة، وقُطعت الولاية عنهم، ولا يُدعا لهم بخير حتى يتوبوا إلى ربهم، إنه ? يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ? [الشورى:25].(1/277)
[التوبة]
وعلى العبد أن يتقي الله في سر أمره وعلانيته، ويستغفر الله ويتوب إلى الله من ذنوبه، فإنه يقبل التوبة عن عباده، بذلك وصف نفسه جل ثناؤه، فقال :? وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ? [طه:82]. ثم دعا عباده إلى التوبة، ثم أخبرهم أنه يقبلها، فقال :? استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ? [هود:90]. وقال :? وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ? [النور:31].
فمن تاب إلى الله قَبِلَ توبته، وإن كانت ذنوبه عدد الرمل، وأكثر من ذلك، لأنه كريم، وهو بعباده رؤوف رحيم، يقبل التوبة ويقيل العثرة، ويقبل المعذرة، ويغفر الخطيئة، إذا صحت من العبد التوبة. وقال جل ثناؤه :? والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما ? [الفرقان:68 –70]. ومن تاب من ذنبه، قَبِلَ الله توبته وأحبه، كذلك قال جل ثناؤه :? إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ? [البقرة:222]. يعني: المتطهرين من الذنوب. فمن أحبه الله لم يعذبه، وكان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وكان من أهل الجنة لاشك فيه. وكذلك أخبر تبارك وتعالى عن ملائكته :? الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ? [غافر:7 – 8]. والله جل ثناؤه لا يخلف الميعاد.(1/278)
[التوبة من حقوق الله]
فالتوبة لها وجوه وتفسير، فكل ذنب بين الله وبين عباده وإمائه نحو الزنا، وشرب الخمر، وإتيان الذكران بعضهم بعضا، وإتيان النساء بعضهن بعضا، واستماع محارم اللغو واللهو والعكوف عليها، وقول الزور، وقذف أهل الإحصان من الرجال والنساء بالرفث والخناء والفجور، والكذب، والمرح، والخيلاء، والكبرياء، والرياء، والعجب، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والنظر إلى ما لا يحل من العورات، وغيرها، والفرار من الزحف لا ينحرف إلى قتال ولا يتحيز إلى فئة، والكذب، والغيبة، والنميمة، وما أشبه ذلك من الذنوب، ومعاداة أولياء الله، وموالاة أعداء الله، فالتوبة من ذلك كله بالندم على ما مضى، والإستغفار بالقلب واللسان بلا إصرار، والعزم أن لا يعود إلى شيء من ذلك أبداً، قليلاً كان أو كثيراً.(1/279)
[التوبة من حقوق المخلوقين]
وأحب إلينا أن ينظر إلى ما كان أذىً لمسلم أو معاهد، فيستحله ويعتذر إليه منه ويرضيه، وكل ذنب كان بين العبد وبين الناس مسلمهم ومعاهدهم، من سرقة، أو ربا في أموالهم، أو أخذِ مال بغير حق في جناية، أو غصب، أو إدخال ضرر عليهم في الأبدان كالقتل، والجراحات كالضرب الشديد، ( كان إذا قدر على ذلك وكان له مال ) فإن لم يكن مال جعله ديناً عليه، وعزم على أن يرده إلى أهله إذا قدر عليه، أو على ذريتهم إن كان أهله ماتوا. ويندم على أخذه وحبسه، ويستغفر الله، ويعطي من نفسه أن لا يعود إلى مثل ذلك أبدا، ولا تجزيه التوبة من الأخذ حتى يرد إذ كان حابساً، وإن استوهبه منهم ووهبوه له بطيبة أنفس منهم، كان ذلك له حلالاً، بعد الإقرار لهم على أجمل الوجوه. وإن صالحوه وأخذوا بعضاً وتركوا بعضاً، على غير اقتسار لهم كان ذلك جائزاً.
وإن لم يعرف أصحاب المال الذي أخذ منهم المال وأيس أن يعرفهم، أو يعرف ورثتهم، تصدق بمقدار ما أخذ منهم على المساكين، فإن جاءوا بعد ذلك إليه أخبرهم أنه قد تصدق بذلك عنهم، فإن رضوا لم يكن عليه شيء، وإن أرادوا حقهم رده عليهم، إذا قدر عليه، وكانت صدقته له. وإن كان محتاجاً إليه فأنفقه على نفسه، وجعله ديناً عليه لأهله، فإن تاب قبل القدرة على أدائه إليهم من غصبه المال، وإنفاقه إياه على نفسه، كانت توبته مقبولة عند الله جل ثناؤه، وكان المال له لازماً حتى يعينه الله على قضائه.
وإن كان الذي أخذ أموالهم غائباً في بعض البلدان، فلم يقدر على الخروج إليهم به لعلة مرض، أو علة حائلة بينه وبين ذلك، أوصى أن يبعث به إليهم، لأن عليه أن يوصل إليهم حقوقهم حيث كانوا، ويستحلهم من أخذه وإنفاقه وغصبه، ثم لاشيء لهم عليه بعد ذلك. وتوبته مقبولة فيما بينه وبين الله جل ثناؤه.(1/280)