فعلى العبد أن يتقي الله، وينظر لنفسه، وأن لا يقبل ما تأولته القدرية المجبرة، مما لا يجوز على الله جل ثناؤه في الثناء، وأدنى ما عليه أن يحسن الظن بربه، ويأمنه على نفسه ودمه، ويعلم أنه أنظرُ له من جميع خلقه، ولْيرجع إلى المحكمات من الآيات، التي وصف الله جل ثناؤه فيها نفسه - جل وجهه - بالعدل والإحسان، والرحمة بخلقه، والغنى عنهم، والأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، فيعمل بتلك الآيات ويكون عليها، ويؤمن بالمتشابهات، ولا يظن أنها وإن جهل تأويلها وحُرِّفت عن تفسيرها أنها تنقض المحكمات، فإن كتاب الله ( لا ينقض بعضه بعضاً، ولا يخالف بعضه بعضاً، وقد قال) الله عز وجل :? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ? [النساء:82]. فنفى أن يكون في كتابه اختلاف .
فليتق الله عبدٌ ولينظر لنفسه، وليحذر هذه الطائفة من القدرية والمجبرة، فإنهم كفار بالله، لا كفر أعظم من كفرهم، لما وصفنا من فريتهم على الله جل ثناؤه، في كتابنا هذا. لأنهم شهدوا لجميع الكفار أن الله أدخلهم في الكفر شاءوا أو أبوا، فشهدوا للفساق وجميع العصاة، أنهم إنما أُتُوا في ذلك كله من ربهم، ولذلك ( هم مجوس هذه الأمة ).(1/266)
[المرجئة]
وليحذر العبد أيضاً هذه الطائفة من المرجئة فإن قولهم من شر قول وأخبثه، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( صنفان من أمتي لعنوا على لسان سبعين نبياً القدرية والمرجئة، قيل: مَن القدرية والمرجئة يا رسول الله ؟ فقال: أما القدرية فالذين يعملون بالمعاصي ويقولون: هي من عند الله وهو قدَّرها علينا، وأما المرجئة فهم الذين يقولون: الإيمان قولٌ بلا عمل ).
فهذان قولان فيهما ذهاب الإسلام كله، ووقوع كل معصية، وذلك أن القدرية زعمت أن الله جل ثناؤه أدخل العباد في المعاصي، وحملهم عليها وقدرها عليهم وخلقها فيهم، فهم لا يمتنعون منها ولا يستطيعون تركها.
وأما المرجئة فرخَّصوا في المعاصي وأطمعوا أهلها في الجنة بلا رجوع ولا توبة، وشككوا الخلق في وعيد الله، وزعموا أن كل من ركب كبيرةً من معاصي الله فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله، بعد أن يكون مقراً بالتوحيد، وأن جميع أعمال المؤمنين من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ليس من الإيمان، ولا من دين الله، مع أشياء كثيرة تقبح من قولهم، فكان في قولهم انتهاك حرمات الله سبحانه، وتعدي حدوده، وقتل أوليائه، وخفر ذمته، واستخفاف بحقه، والفساد في أرضه، والعمل بالظلم في عباده وبلاده، فهذان قولان مما أُهلك العبادُ والبلادُ بهما، فنعوذ بالله منهما، ونبرأ إلى الله من أهلهما، ونسأله فرجاً عاجلاً، إنه قريب مجيب .(1/267)
[فرائض الله ونواهيه]
فإذا أقرَّ العبد بما وصفنا من توحيد الله وعدله وعَرَفَه، فعليه بعد ذلك أن يؤدي ما افترض الله عليه من الصلاة والزكاة والصوم والحج، إذا كان لذلك مطيقاً، والجهاد في سبيله لجميع أعدائه من الكافرين والفاسقين، إذا أمكنه ذلك واحتيج فيه إليه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا لزمه ذلك بنفسه، ومع غيره إذا أمكنه ذلك، ويؤدي ما افترض الله جل ثناؤه عليه من شرائع دينه.
وعليه أن يتجنب ما نهى الله عنه من معاصيه كلها من الكفر كله، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وأخذ أموال الناس مسلميهم ومعاهديهم بغير حقها، والظلم لهم، والعدوان عليهم، وأكل أموال اليتامى ظلماً، وأكل الربا، والسرقة، والزنا، وقذف المحصنات والمحصنين، وشرب الخمر، وإتيان الذكران من العالمين، والفرار من الزحف في المواطن التي لا ينبغي له الفرار فيها، إذا كان في ذلك اصطلام المسلمين، وهلاكهم، وعقوق الوالدين المسلمَين، وإن كانا عاصيين صاحبهما معروفاً، وكل معصية يعلمها الله معصية، وكل ما عليه أن يعلم أنه لله معصية فلا يعمله ولا يقربه، فإن الله تبارك وتعالى قد نهى عن الذنوب كلها، كبيرها وصغيرها، كبيرها فيه الوعيد، وصغيرها هو موهوب لمن اجتنب الكبير، وذلك قول الله :? إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما ? [النساء:31].(1/268)
فليتق الله عبدٌ ولا يقدم على معصية ربه وهو يعلمها، ولا يعتقدها متأولاً ولا متديناً بها، وقد جعل الله له السبيل إلى معرفتها وتركها، وليكن أبداً متحرزاً متحفظاً، وبأمر ربه متيقظاً، فإن الله عز وجل وصف المتقين، من عباده المؤمنين، فقال جل ثناؤه: ? إن الذين اتقوا إذا مسهم طآئف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ? [الأعراف:201]. ولم يقل فإذا هم مصرون، ثم أخبر تبارك وتعالى عن إخوان الشيطان فقال جل ثناؤه: ? وإخوانهم يُمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ? [الأعراف:202]. فالمؤمن أبداً متيقظ متحفظ، راجٍ خائف، يرجو الله لما هو عليه من الإحسان، ولما يكون منه من ذلك رجاء لا قنوط فيه، ويخافه على الإساءة الموبقة إن فعلها خوفاً لا طمع فيه، إلا بتوبةٍ منها، فالخوف والرجاء لا يفارقانه، بذلك وصف الله جل ثناؤه المؤمنين من عباده، فقال: ? أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ? [الإسراء:57]. وهكذا صفة المؤمنين، وليس أحد يقدر أن يؤدي كلما استحق الله جل ثناؤه من عباده مِن شكرِ نعمه، وإحسانه بالكمال والتمام حتى لا يُبقي مما يحق له جل ثناؤه عليه شيئاً إلا أداه. هيهات !! فكيف وهو يقول تبارك وتعالى: ? وإن تعدوا نعمة الله تعالى لا تحصوها ? [إبراهيم:34]. فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى ؟! ولم يفترض جل ثناؤه على خلقه ذلك، ولا يسأل كلما له عليهم، مما يستحق لديهم، لعلمه بضعفهم، وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم، وما تعجز عنه أنفسهم، وأنهم لا يقدرون على ذلك، ويقصرون عن بلوغ ذلك، فتبارك الله جل ثناؤه عن الاستقصاء عليهم. ولم يسألهم كل مالَه عليهم، وغفر لهم صغير ذنوبهم كله، إذا اجتنبوا كبيره، رحمة بهم ونظرا لهم.
فأما من رجا الرحمة وهو مقيم على الكبيرة، فقد وضع الرجاء في غير موضعه، واغتر بربه، واستهزأ بنفسه، وخدعه وغرَّه من لا دين له، إلا أن يتوب فيُغفر له بالتوبة.(1/269)
فأما الإقامة على الكبائر فلا. بل قد وصف الله جل ثناؤه الراجين لرحمته، وكيف وضعوا الرجاء موضعه، فقال: ? إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ? [البقرة:218]. فهكذا يكون الرجاء. وذلك أن الجنة والنار طريقان، فطريق الجنة طاعة الله المجردة من الكبائر من معاصي الله، وطريق النار معصية الله، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله، لأنا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمنا، ولا بما آمن به منه من النار ناجيا، يصدق ذلك قول الله عز وجل :? أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ? [البقرة:85].فلم يُسمَّوا بما آمنوا به مؤمنين، بل سُمُّوا بما كفروا به منه كله كافرين.
وعلى هذه الطريق في من لم يكفر به من الفاسقين، أهل الكبائر العاصين، فمن كان على المعصية الكبيرة مقيماً فهو على طريق النار. فكيف يرجو البلوغ إلى الجنة، وهو يسلك ذلك الطريق. كرجل توجه إلى طريق خراسان فسلكه وهو يقول أنا أرجو أن أبلغ الشام، وهو على طريق خراسان. وذلك ما لا يكون إلا أن يتحول طريق الشام. فهذا مثلُ مَن وضعَ الرجاء في غير موضعه.
فإن اعتل معتل بقول الله عز وجل :? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? [النساء:48، 116]. فأطمع مَن فعلَ فِعالاً دون الشرك من الكبائر في المغفرة بهذه الآية.
قيل له: إن الله عز وجل قد قال في موضع آخر من كتابه، لنبيه صلوات الله عليه وآله: ? قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ? [الزمر:53]. ففي هذه الآية إطماع لجميع المؤمنين والمشركين وغيرهم، وليست تلك الآية بأوضح في الغفران من هذه الآية، فيطمع للمشركين فيها.(1/270)