وأمَّنَ الخلق أن يكون لهم ظالماً، أو بغير ما عملوا مجازيا، فقال جل ثناؤه: ? ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأً يجز به ? [النساء:123]. وقال سبحانه: ? ولاتزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ?. [الإسراء:15]وقال تبارك وتعالى :? فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ? [الزلزلة:7 – 8]. وقال عز ذكره: ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ? [الذاريات:56]. فللعبادة خلقهم، وبطاعته أمرهم، ومِن ظلمهِ أَمَّنهم، وبنعمته ابتدأهم، بما جعل لهم من العقول والأسماع والأبصار، وسائر الجوارح والقوى، التي بها يصلون إلى أخذ ما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، ثم ابتدأهم جل ثناؤه بالنعمة في دينهم، بأن بَيَّن لهم ما يأتون وما يذرون، ثم أمرهم بما يطيقون. أراد بذلك إكرامهم، ومن المهالك إخراجهم، بَيَّن ذلك بقوله في الإنسان: ? ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين ? [البلد:9 – 11]. هما: الطريقان، الخير والشر فيما سمعنا. يقول الله سبحانه: بَيَّنا له الطريقين، ليسلك طريق الخير ويجتنب طريق الشر. وقال تبارك وتعالى: ? ولقد جاءهم من ربهم الهدى ? [النجم:23]. وقال عز وجل: ? إن علينا للهدى ? [الليل:12]. وقال جل ثناؤه: ? الذي قدر فهدى ? [الأعلى:3]. وقال تبارك وتعالى: ? وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ? [النحل:9]. وقال سبحانه: ? وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ? [فصلت:17]. وقال لنبيه صلوات الله عليه وعلى آله: ? قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ? [سبأ:50]. فأمر نبيه صلى الله عليه أن ينسب ضلاله إن كان منه إلى نفسه، والهدى إلى ربه تبارك وتعالى، وقد علم الله جل ثناؤه أن لا يكون من نبيه ضلالة أبداً، وأن لا يكون منه إلا الهدى، وإنما أمر بذلك تأديباً لخلقه، وأن ينسبوا ضلالتهم إلى أنفسهم، وينزهوا منها ربهم، وأن ينسبوا(1/256)


هداهم إلى ربهم الذي به اهتدوا، وبعونه وتوفيقه رشدوا.(1/257)


[القدرة قبل الفعل]
والقدريون المفترون يكرهون أن ينسبوا الضلالة إلى أنفسهم والفواحش، ولا يقرون أن الله جل ثناؤه ابتدأ عباده بالهدى ولا بالتقوى، قبل أن يصيروا إلى هدى أو تقوى، خلافاً لقوله، ورداً لتنزيله، وإبطالاً لنعمه، وهو يقول جل ثناؤه: ? فاتقوا الله ما استطعتم ? [التغابن:16]. يأمرهم بالتقوى إذ كانوا لها مستطيعين، فلو لم يكن لهم عليها استطاعة لما أمرهم بها، ولو كانت استطاعة لغيرها لم يجز أن يقول ? اتقوا الله ما استطعتم ?، إذ كانت الإستطاعه لغير التقوى. وقال جل ثناؤه: ? خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ? [البقرة:63]. ?يا يحيى خذ الكتاب بقوة ? [مريم:12]. فقد أمرهم أن يأخذوا لأن الأخذ فعلهم، والأمر والقوة فعل ربهم، فلم يأمرهم جل ثناؤه أن يأخذوا، حتى قوَّاهم على ذلك قبل أن يأخذوا.
وكذلك قال في الصيام: ? وعلى الذين يطيقونه فدية ? [البقرة:184]. يعني: على الذين يطيقون الصيام ولا يصومون فدية، ونحو ذلك مما في القرآن. وذلك كله دليل على أن القوة قبل الفعل، إذ كان الفعل لا يكون إلا بالقوة، وكلما كان بشيء يكون، أو به يقوم، فالذي يكون الشيء أو يقوم به فهو قبله، كذلك الأشياء كلها بالله جل ثناؤه كانت وبه قامت، وهو قبلها. فكذلك القوة فينا قبل فعلنا، إذ كان فعلنا لا يكون ولا يقوم ولا يتم إلا بها، وكذلك يقول الناس: بقوة الله فعلنا. لاكما تقول القدرية المشبهون: إن الله جل ثناؤه لم يبتدئ العباد بالقوة! فأنعم عليهم بها قبل فعلهم! ولكنها كانت منه مع فعلهم.(1/258)


ففيما وضعناه دليل وبرهان، أن القوة من الله جل ثناؤه في عباده قبل فعالهم، إذ كان بطاعته لهم آمراً، وعن معصيته لهم ناهياً، نعمة أنعم بها الله عليهم، وأحسن بها إليهم. والقوة عندنا على الأعمال هي الصحة والسلامة من الآفات في النفس والجوارح، وكل ما يوصل به إلى الأفاعيل، إذ كانت الصحة والسلامة تثبت الفرض، وإذا زالت زال الفرض، ذلك موجود في العقول، وفي أحكام الله جل ثناؤه، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إجماع الأمة . لا يعرفون غير ذلك، ولا يدينون إلا بذلك.
فليتق الله عَبدُه، وليعلم أن الله جل ذكره يبتدئ العباد بالنعم والبيان، ولا يبتدئهم بالضلال والطغيان، صدَّقَ ذلك قولُه لا شريك له: ? وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ? [الإسراء:15]. وقال جل ثناؤه: ? وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ? [التوبة:115].(1/259)


[المعاصي فعل الإنسان وتزيبن الشيطان]
فمن أحسن فليحمد الله جل ثناؤه، إذ أمره بالخير وأعانه عليه، ومن أساء فليذم نفسه فهي أولى بالذم، وليضف المعصية إذ كانت منه إلى نفسه الأمارة بالسوء، وإلى الشيطان إذ كان بها آمراً ولها مزيِّناً، كما أضافها الله جل ثناؤه إليه، وأضافها الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون حين عصوا الله إلى أنفسهم، قال آدم وحواء صلوات الله عليهما حين عصيا في أكل الشجرة: ? ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ? [الأعراف:23]. فأخبر سبحانه أن الشيطان دلاَّهما بغرور، ثم حذَّر أولادهما من بعدهما إعذاراً إليهم، وتفضلاً عليهم، فقال: ? يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ? [الأعراف:27].
وقال موسى صلوات الله عليه حين قتل النفس: ? هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ? [القصص:15]. وقال: ? رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ? [القصص:16].
وقال يونس صلوات الله عليه وهو في بطن الحوت تائباً من ظلمه لنفسه، ومقراً بذنبه ? لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ? [الأنبياء:87]. وقال غيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم نحو ذلك، وقال الصالحون نحو ذلك عند زلتهم. فنقول كما قال أنبياؤه ورسله صلوات الله عليهم، وكما قال الصالحون من عباده، فنضيف المعاصي إلى أنفسنا، وإلى الشيطان عدونا، كما أمرنا ربنا، ولا نقول كما قال القدريون المفترون: أن الله جل ثناؤه قدَّر المعاصي على عباده، ليعملوا بها وأدخلهم فيها، وأرادها منهم وقلَّبهم فيها كما تقلب الحجارة، وشاءها لهم وقضاها عليهم حتماً، لا يقدرون على تركها. وأنه في قولهم يغضب مما قضى، ويسخط مما أراد، ويعيب ما قدَّر، ويعذب طفلاً بجرم والده، وأنه يحمد العباد ويذمهم بما لم يفعلوا، ويجزيهم بما صنع بهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.(1/260)

52 / 201
ع
En
A+
A-