وقال الله جل ذكره وهو يذكر أهل النار: ? أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ? [آل عمران:77]. تأويل ذلك: أنهم لا يرجون من الله جل ثناؤه ثوابا، ولا يفعل بهم خيرا، وأهل الجنة ينظر الله إليهم وينظرون إلى الله جل ثناؤه، ومعنى ذلك أنهم يرجون من الله خيرا، ويأتيهم منه خير ويفعله بهم، وليس معنى ذلك أنهم ينظرون إليه جهرة بالأبصار، عز ذو الجلال والإكرام، وكيف يرونه بالأبصار، وهو لا محدود ولا ذو أقطار، كذلك جل ثناؤه لا تدركه الأبصار، ومن أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار، ومن أحاطت به الأقطار، كان محتاجاً إلى الأماكن، وكانت محيطة به، والمحيط أكبر من المحاط به وأقهر بالإحاطة، فكل من قال إنه ينظر إليه جل ثناؤه على غير ماوصفنا من انتظار ثوابه وكرامته، فقد زعم أنه يدرك الخالق، ومحال أن يدرك المخلوقُ الخالقَ جل ثناؤه بشيء من الحوآس، لأنه خارج من معنى كل محسوس وحآس، فكذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه دركَ الأبصار، وإحاطةَ الأقطار، وحُجُبَ الأستار، فتعالى الله عن صفة المخلوقين، علواً كبيراً لا إله إلا هو رب العالمين .(1/246)
[شبه المشبهة]
وتأولت أيضاً المشبهة قولَ الله تبارك وتعالى: ? خلقت بيدي ? [ص:75]. وقوله: ? والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه ? [الزمر:67]. وقوله: ? وجاء ربك والملك صفاً صفا ? [الفجر:22]. وقوله: ? وكلم الله موسى تكليما ? [النساء:164]. وقوله: ?سميع بصير ? [الحج:61، لقمان:28، المجادلة:1].وقوله: ? ويحذركم الله نفسه ? [آل عمران:28 – 30]. وقوله: ? كل شيء هالكٌ إلا وجهه ? [القصص:88]. ففسروا ذلك على ما توهموا من أنفسهم، وبأنه عز وجل عندهم في ذلك كله على معنى المخلوقين، وصفاتهم في هيئآتهم وأفعالهم، فكفروا بالله العظيم، وعبدوا غير الله الكريم .
وتأويل ذلك كله عند أهل الإيمان والتوحيد: أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فأما قوله تبارك وتعالى: ? خلقت بيدي ?. يعني: بقدرتي وعلمي. يريد أني على ذلك قادر وبه عالم، توليت ذلك بنفسي لا شريك لي في تدبيري وصنعي، لا أن قدرتي وعلمي ونفسي غيري، بل أنا الواحد الذي لاشيء مثلي. وقد بَيَّن معنى هذه الآية في آية أخرى، فقال: ? إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ? [آل عمران:59]. وقال جل ذكره: ? إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ? [النحل:40]. يريد إذا كونَّا شيئاً كان . وقال تبارك وتعالى: ? أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون ? [يس:71]. يقول: مما عملت أنا بنفسي.
وقال جل ثناؤه: ? بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ? [المائدة:64]، وتأويل ذلك عند أهل العلم: بل نعمتاه مبسوطتان على خلقه، نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.(1/247)
وقيل في تأويله: بل رزقاه مبسوطان على خلقه، رزق موسع، ورزق مضيق، ? ينفق كيف يشاء ?. أي: يفعل من ذلك ما هو أصلح لعباده. كذلك قال جل ثناؤه: ? بيده الملك ? [الملك:1]. يعني: له الملك. وكذلك تقول العرب: الملك بيد فلان. وقد قبض فلان الملك والأرض. وذلك في قبضته وبيمينه. يعنون: في قدرته وملكه. كذلك السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما في قبضة الله وبيمينه. يعني: في قدرته وملكوته وسلطانه، اليوم ويوم القيامة وفي كل وقت. كما قال جل ثناؤه: ? والأمر يومئذٍ لله ? [الإنفطار:19]. فالأمر يومئذٍ واليوم بيده. وقال تبارك وتعالى لمن عصاه وهو يساق إلى النار: ? ذلك بما قدمت يداك ? [الحج:10]. و? بما كسبت يداك ?. يريد: بما كسبتَ أنت بقولك وفعلك، ليس يعني: يده دون بدنه وجوارحه .
وقال جل ثناؤه لنبيه، صلوات الله عليه وعلى أهله: ? إلا ما ملكت أيمانكم ? [النساء:24]. يعني: ما ملكتم أنتم، وتقول العرب: أسلم فلان على يدي فلان. يريدون: بقوله وأمره. ويقولون:
................. بيد الله أمرنا والفناءُ
يريدون: بالله عمرنا والفناء. ويقولون: نواصينا بيد الله، ونحن في قبضة الله. يريدون في هذا كله: أنَّا في قدرته وملكه، ليس يذهبون إلى يد كيدِ الإنسان أو غيره من الخلق.
ومعنى قوله: ? وجاء ربك والملك صفاً صفا ? [الفجر:22]. يقولون: جاء الله جل ثناؤه بآياته العظام في مشاهد القيامة، وجاء بتلك الزلازل والأهوال، وجاء بالملائكة الكرام، فتجلت الظُّلَم، وانكشفت عن المرتابين البُهَم، وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وليس قوله: ? وجاء ربك ?. أنه جاء من مكان، ولا أنه زائل ولا حائل، أو منتقل من مكان إلى مكان، أو جاء من مكان إلى مكان، تبارك الله وتعالى عن ذلك. بل هو شاهد كل مكان، ولا يحويه مكان، وهو عالم كل نجوى، وحاضر كل ملأ.(1/248)
كذلك قوله: ? هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ضلل من الغمام ? [البقرة:210]. كما قال جل ثناؤه: ? ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ? [يس:49]. وكذلك قال جل ثناؤه: ? فأتى الله بنيانهم من القواعد ? [النحل:26]. وقال: ? فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ? [الحشر:2]. يعني بذلك كله: أنه أتاهم بعذابه وأمره. ليس أنه أتاهم بنفسه زائلاً، وكان في مكان فكان عنه منتقلاً. وكذلك يقول القائل للرجل إذا جاء بأمرٍ عجيب: لقد أتى فلان أمراً عجيباً. يريدون: أنه فعل شيئاً أعجبه. فذلك تأويل المجيء من الله جل ثناؤه. لا هو بالانتقال ولا بالزوال، لأن الزائل مدبَّر محتاج، لولا حاجته إلى الزوال لم يزل. فلذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه الزوال والإنتقال .(1/249)
[القرآن كلام الله مخلوق]
وقوله:? وكلم الله موسى تكليماً ? [النساء:164]. فذهبت المشبهة إلى أن الله تعالى عما قالوا علواً كبيراً: تكلم بلسان وشفتين، وخرج الكلام منه كما خرج الكلام من المخلوقين، فكفروا بالله العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة.
ومعنى كلامه جل ثناؤه لموسى صلوات الله عليه عند أهل الإيمان والعلم: أنه أنشأ كلاماً خلقه كما شاء، فسمعه موسى صلى الله عليه وفهمه، وكل مسموع من الله جل ثناؤه فهو مخلوق. لأنه غير الخالق له وإنما ناداه الله جل ثناؤه، فقال: ? إني أنا الله رب العالمين ? [القصص:30]. والنداء غير المنادي، والمنادي بذلك هو الله جل ثناؤه، والنداء غير الله، وما كان غير الله مما يعجز عنه الخلائق فمخلوق، لأنه لم يكن ثم كان بالله وحده لا شريك له.
وكذلك عيسى صلوات الله عليه كلمة الله وروحه، وهو مخلوق كما قال الله في قوله: ? إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ? [آل عمران:59]. وكذلك قرآن الله وكتب الله كلها، قال الله جل ثناؤه: ? إنا جعلناه قرآناً عربياً ? [الزخرف:3]. يريد: خلقناه. كما قال: ? خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ? [الزمر:6]. يقول: خلق منها زوجها. وقال جل ثناؤه: ? ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه ? [الأنبياء:2]. وقال تبارك وتعالى: ? فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ? [القلم:44]. وقال سبحانه: ? أو يحدث لهم ذكرى ? [طه:113]. فكل محدث من الله جل ثناؤه فمخلوق، لأنه لم يكن فكان بالله وحده لا شريك له، فالله أول لم يزل ولا يزول.
وأما قوله: ? سميع بصير ?. فمعنى ذلك: أنه لا تخفى عليه الأصوات ولا اللهوات، ولا غيرها من الأعيان، أين ما كانت وحيث كانت، في ظلمات الأرض والبر والبحر. ليس يعني: أنه سميع بصير بجوارح أو بشيء سواه، فيكون محدوداً، أو يكون معه غيره موجوداً، تعالى الله عن ذلك.(1/250)