[التوحيد]
ولا يكون العبد مؤمناً حتى يعلم أنه مخلوق مرزوق، وأنه ذليل مقهور، وأن له خالقاً قديما، عزيزاً حكيماً، ليس كمثله شيء في وجهٍ من الوجوه، ولا معنى من المعاني، وأن ما سواه من الأشياء كلها من عرشه، وملائكته، ورسله، وسمواته، وأرضه، وما فيهن وما بينهن وما تحتهن، مما أخرجه الله جل ثناؤه، من تمكين العباد وأفعالهم، لم يجعل لأحد عليه قدرة ولا استطاعة، ولا عند أحدٍ منهم معرفة في شيء من بدوِّ ذلك وإنشائه، ومن أعمل منهم فكره ليبلغ معرفة شيء من ذلك بقي حسيراً، منقطعاً مبهوراً، ولا جعل إلى أحدٍ في شيء منه سبيلاً، ولا جعل لأحد فيه محمدة ولا ذماً، لأنه جل ثناؤه لم يستعن على إنشاء ما أنشأ بأحد، ولم يشاركه في ملكه أحد، ولم يؤآمر في تدبيره أحدا، فهو الواحد الأحد، الذي لا من شيء كان، ولا من شيء خلق ما كان.
فهو الدائم بلا أمد، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء: ? هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ? [الحديد:3].
وجميع ما أدرَكتَه ببصرك ووهمك، ووقع عليه شيء من حوآسك، أو كيَّفته بتقديرك، أو حددته بتمثيلك، أو شبهته بتشبيهك، أو وقَّتَ له وقتاً، أو حدَّدت له حداً، أو عرفت له أولاً، أو وصفت له آخرا، فهو محدث مخلوق، والله تبارك وتعالى خالق الأشياء، لا من شيء خلقها، ولا على مثال صوَّرها، بل أنشأها وابتدأها، فدبرها بأ حكم تدبير، وقدرها بأحسن تقدير.(1/241)
فهو جل ثناؤه، لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق، لأنه الخلاق الذي: ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى:11]. لم يخص بذلك شيئاً دون شيء، بل عم الأشياء كلها، ما كان منها وما يكون، فلا شبيه له ولا عديل، لا الضياء ولا الأنوار، ولا الظلمات ولا النار. وذلك أن النور والظلمة مخلوقان محدثان، يوجدان ويعدمان، ويُقبلان و يدبران، ويذهبان ويجيئان، ويوصفان ويُحدان. والخالق جل ثناؤه ليس كذلك، لأن الخالق جل وعز قديم لم يزل، والمخلوق لم يكن، فآثار الصنعة في المخلوق بينة، وأعلام التدبير قائمة، والعجز فيه ظاهر، والحاجة له لازمة، والآفات به نازلة، فأنت تراه مرة ماثلاً، ومرة آفلاً زائلاً.(1/242)
فلما كانت هذه صفة كل مخلوق، ولم يجز أن تضاف صفة المخلوق إلى الخالق عز وجهه، لأن الخالق لا يكون في صفة المخلوق، تبارك وتعالى الخالق أن يكون له شبه البشر، هو الحامد نفسه قبل أن يحمده أحد من خلقه. فقال تبارك وتعالى: ? الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ? [الأنعام:1]. يقول جل ثناؤه إن الكفار عبدوا إلهاً غير الله، فقالوا هو ضياء ونور، ومن جنسه النار والنور، وجعلوا معه إلها آخر، فقالوا: هو ظلمة ومن جنسه كل ظلمة. فعدلوا بالله جل ثناؤه حين شبهوه بالأنوار، وجعلوا معه آلهة من الظلمات، فأكذبهم الله جل ثناؤه إذ قال: ? وجعل الظلمات والنور ?. تكذيباً لهم إذ شبهوه وعدلوا به، وأَكذَبَ جل ثناؤه الذين شبهوه بالإنس من اليهود وغيرهم من المشركين، جهلاً به وجرأةً عليه، فقال جل ثناؤه مع ما بيَّن لهم في عقولهم من وحدانيته، ونفى شبه الخلق عندما يرون من أدلته وأعلامه، التي تدعوهم إلى معرفته وتوحيده، من خلق السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، ومن أنفسهم لو أحسنوا النظر، وأعملوا في ذلك الفكر، فقال جل ثناؤه: ? قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد ? [الإخلاص:1 – 4]. وقال: ? ليس كمثله شيء ? [الشورى:11]. وقال: ? ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ? [المجادلة:7].
كذلك الله عز وجل شاهد كل نجوى، عالم السر وأخفى، قريب لا بمجاورة، بعيد لا بمفارقة، شاهد كل غائب، آخذ بناصية كل دآبة، وعليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، أقرب إلينا من حبل الوريد، وحائل بيننا وبين قلوبنا لا بتحديد، وهو مع قربه منا مدبر السماوات العلى، وشاهد الأرضين السفلى، وعليم بما فيهن وما بينهن وما تحت الثرى، وهو على العرش استوى، وهو مع كل نجوى، وهو في ذلك لا كشيء من الأشياء.(1/243)
[أسباب وعلل التشبيه]
ولقد ضل قوم ممن ينتحل الإسلام من المشبهة الملحدين، الذين شبهوا الله عز ذكره بخلقه، وزعموا أنه على صورة الإنسان، وأنه جسم محدود، وشبح مشهود، واعتلُّوا بآيات من الكتاب متشابهات، حرفوها بالتأويل، ونقضوا بها التنزيل، كما حرَّف من كان قبلهم من اليهود والنصارى كلام الله عن مواضعه، وبأحاديث افتعلها الضلال، من بغاة الإسلام، فحملها عنهم الجهال. فيها الإلحاد والكفر بالله، وأحاديث لم يعرفوا حسن تأويلها، ولم يُعنوا بتصحيحها، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.(1/244)
[الرؤية]
فكأنما تأولوا قول الله عز وجل: ? وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظره ? [القيامة:22]. فقالوا إن الله عز وجل يُرى بالأبصار في الآخرة، ويُنظر إليه جهرة، خلافاً لقول الله جل ثناؤه: ? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ? [الأنعام:103]. جهلاً بمعاني الآية وتأويلها.
فأما أهل العلم والإيمان، ففسروها على غير ما قال أهل التشبيه المنافقون، فقالوا: ? وجوه يومئذ ناضرة ? يقول: مشرقة حسنة، ? إلى ربها ناظره ? يقول: منتظرة ثوابه وكرامته ورحمته، وما يأتيهم من خيره وفوائده. وهكذا ذلك في لغات العرب. وبلغاتها ولسانها نزل القرآن، يقولون: إذا جاء الخصب بعد الجدب: قد نظر الله جل ثناؤه إلى خلقه، ونظر لعباده. يريدون أنه أتاهم بالفرج والرخاء. ليس يعنون أنه كان لا يراهم ثم صار يراهم .(1/245)