فقلت: أفلا ترى أنك لو أنكرت أن تكون السماء والأرض من الله ولله خلقا صنعا، مفتطرا بدعا، كنت بإنكار ذلك لله منكرا، وإن كنت بالله عند نفسك مقرا!! فكان في هذا الجواب - بحمد الله - ما حجَّه وقطعه، وكفاه في الاحتجاج عليه وكفه عن التشنيع ومنعه، ولم يتكلم بعده - علمتُ - في مسألته بكلمة واحدة، وأمسك في مسألته عن الاكثار والشَّغب والملآدة.
ومن الدلائل على ما ذكرنا، وقلنا به في ذلك وفسّرنا، قول الله سبحانه: ? ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا، قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ? [الإسراء: 101 - 102]. يقول صلى الله عليه: لقد علمت ما افتطر وجعل، وخلق وأنزل، ما جئتك به من الآيات والدلالات، إلا مَن خَلق وجعل وافتطر الأرضين والسماوات. فلما أزال فرعون صنعهن وخلقهن عن الله ونسبهن إلى السحر، ازداد بذلك شركا وكفرا إلى ما كان فيه من الشرك والكفر، وكذلك لو لم ينكر، إلا آية واحدة مما بُصِّرَ وأُرِي من آيات الله لكان بإنكارها مشركا، صاغرا راغما، ليس له بالله معرفة ولا إيقان، ولا بعد إنكاره لها توحيد ولا إيمان.(1/236)


ومن توحيد الله ومعرفته، وما هو أهله من حكمته، أن تعلم أنه لم يُكلف ولا يكلف أبدا، من عبيده عبدا، ما لا يتسع له ولا يمكنه، ولا يأمره بما لا يستحسنه، ولا يريد أبدا منه، ما ينهاه تعالى عنه، ولا يزجره أبدا فينهاه، عما يريده من الأمور ويشاه، لما في ذلك كله من خلاف الحكمة والرحمة، وما لا يجوز أبداً أن يوصف به من الصفات المستقبحة المذمَّمة، التي لا يلحق بالله جل ثناؤه منها صفة، ولا تحتملها من المعارف بالله سبحانه معرفة، لما يزول بها من الأسماء الحسنى، والأمثال الكريمة العلى، ولله جل ذكره من ذلك كله ماطاب وزكى، ومن قال في الله بخلاف ذلك فقد قال شركا، كما قال سبحانه: ? ولله الأسماء الحسنى ? [الأعراف: 180]. ? ولله المثل الأعلى ? [النحل:60]. وقال: ? سبحانه وتعالى عما يصفون ? [الأنعام: 100] . و? لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ? [التوبة: 31].
ومن الايمان بالله بعد التوحيد لله إثبات الوعد والوعيد، فمن أنكرهما ولم يكن مثبتا لهما ضلالة وتأويلا خرج بذلك من التوحيد، وكان بإنكاره لهما متعديا ضآلا، وعميا جاهلا، وإن هو أنكر شيئا من آيات تنزيلهما كان بالله مشركا، ومن توحيد الله خارجا وله تاركا.
وكذلك كل من أنكر فريضة من فرائض الله كلها تنزيلا، فإن كان إنكاره لها عماية وتأويلا، كان إنكاره لذلك فسقا وحَرجا، وكان جهله بذلك له من الايمان مُخرجا، وكل فريضة فرضها الله تنزيلا على عبد من عبيده، فعليه من معرفتها والإقرار بها ماعليه من الإقرار بمعرفة الله وتوحيده، إذا لزمته حجتها، وحضره وقتها، فإن كان بتنزيلها جاهلا وله منكرا، كان جهله بها منه لله شركا وكفرا، وإن كان منكرا لتأويلها، مقرا بتنزيلها، كان بإنكاره فيها للتأويل فاسقا فاجرا، ولم يكن مع إقراره فيها بالتنزيل بالله مشركا ولا به كافرا.(1/237)


فهذه جوامع الايمان الواجبة اللازمة، المشتبهة في حكم الله المتفقة المتلائمة، التي لا تختلف جُملُها، ولا يسع مكلفاً جهلُها، والحمد لله كثيرا، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين الذين طهرهم من الرجس تطهيرا.
تمت المسألة بعون الله وتوفيقه.(1/238)


كتاب العدل والتوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أسبغ علينا من نعمه، ومنَّ علينا من إحسانه وكرمه، وبيَّن لنا من الهدى، وأنقذنا من الضلالة والردى، بإقامة حججه، وتواتر رسله، صلوات الله عليهم، ومحكم آياته، وتفصيل بيناته، رحمة لعباده، ودعاءً لهم إلى ثوابه، وإخراجاً لهم من عقابه: ? لئلا يكون للناس على الله حجة ? [النساء:165]. و? ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم ? [الأنفال: 42].(1/239)


[عقائد يجب الإيمان بها]
أما بعد:فإن الذي يجب على العبد أن يكون عاملاً بطاعة الله، التي لا يقبل الله عز وجل غيرها من طاعته إلا بأدائها، ولا يكون مؤمناً حتى يفعلها.
أن يؤمن بالله وحده لا شريك له، ولا يتخذ معه إلهاً، ولا من دونه رباً ولا ولياً، وأن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وبالحساب والجنة والنار، وبالجزاء بالأعمال، وأن الآخرة هي دار القرار، لا ينقطع ثوابها، ولا يبيد عقابها، ولا يموت فيها أهلها، وهم في جزائهم خالدون. ويؤمن بوعد الله جل ثناؤه ووعيده، وأخباره، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما أمر به ونهى عنه صلوات الله عليه من العمل بالمفروض بطاعة الله، والإجتناب لمعاصي الله، والولاية لأوليائه، والمعاداة لأعدائه، والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله. فإذا فعل ذلك كان مؤمناً، مسلماً محسناً، من المتقين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.(1/240)

48 / 201
ع
En
A+
A-