ومثل من سمع كلامي بغير تسليم ولا تَقَبُّل، كمثل رجل ذي حماقة وجهل مُضَلل، بنى بيته على جرف منهار، أو رمل كثير هيال، فلما جاءت الأمطار ودرَّت، وتحركت الأنهار فجرت، وعصفت الرياح فأعصرت، خر بيته منقعرا، و سقط سقوطا مفزعا مذ عرا.
قالوا فلما فرغ من كلامه هذا كله، عجب مَن حضره من حكمته فيه وقوله، ثم لا سيما الكتبة والأحبار، فإنهم كانوا أعجبهم به .
وفي أناجيلهم أنه قال عليه السلام: لحقا أقول لكم أيها الناس والكتبة والأحبار، إنَّ كثيرا من المشرق والمغرب يجيء يوم القيامة والجزاء، يتكىء مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء، وإن كثيرا ممن يزعم أنه ابن لهم يُقصى عنهم مع الظلمة في النار، ثم يكونون مخلدين أبدا في البكاء وتحريق الأستار.
وفي أناجيلهم: أن رجلا من الكتبة جاءه فقال: إني أحب أن أتبعك، وأكون حيث كنت معك، فقال عليه السلام: لثعالب الوحش مغار، ولطير السماء أوكار، وأنا فليس لي منزل ولا قرار أقر إذا قروا فيه، ولكلٍّ مأوى وليس لي مأوى آوي إليه.
وفي أناجيلهم: أن رجلا من حوار ييه قال له: يا معلمي ائذن لي أذهب فأدفن أبي، فقال له: تعال اتبعني وكن معي وعلى أثري، واترك الأموات يدفنون موتاهم، ففيهم لدفنهم ما كفاهم.
تم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين، وعلى أهله الطيبين، وسلم عليهم أجمعين.(1/231)
جواب مسألة (في التوحيد) على رجلين من أهل طبرستان
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحسين بن القاسم: سألت أبي رحمة الله عليه، لرجلين من أهل طبرستان، وهما عبيد الله بن سهل، وهشام بن المثنى، عن توحيد الله ومعرفته، وما اختلف فيه المختلفون من صفته ؟
فقال رضي الله عنه: اكتُبْ: سألتما أعانكما الله وهداكما، ونفعكما بما بصَّركما من الهدى وأراكما، عن توحيد الله ومعرفته، وما اختلف فيه المختلفون من صفته.
فتوحيد الله والمعرفة به وتيقنه، الذي لا يسع أحدا من المكلفين جهل شيء منه، جهلُ قليلِه في توحيد الله كجهل كثيره، وأصغر ما يجهل منه في الشرك بالله عند الله ككبيره، ومَن جَهِلَ من ذلك شيئا واحدا، لم يكن بالله موقنا ولا له مُوَحِّدا، أن يعلم أن الله واحد أحد، ليس له ند من الأشياء ولا ضد، لأن الند لما ينآده مكافٍ، والضد لما يضآده منافٍ، وليس من الأشياء كلها ما يكافيه، ولا يضآده جل جلاله فينافيه، فليس هو جل ذكره كشيء، وهو الأول قبل كل بَدِي، لم يلد سبحانه فيكون ولده له مثلا، ولم يولد فيكون والده له بديا وأصلا، كما قال سبحانه: ? قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ? [الإخلاص:1-4]، والكفؤ: فهو النظير والمثيل والشبيه والند، ولبعده سبحانه من شبه الأشياء ومماثلتها، ولتعاليه عن مشابهة جزئية الأشياء وكلِّيتها، لم تدركه ولا تدركه أبدا عين ولا بصر، ولا يحيط به من الناظرين عيان ولا نظر، كما قال سبحانه: ? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام: 103]. وقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11] وقال سبحانه: ? الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ? [البقرة: 255] والحي القيوم، فهو الذي يبقى سرمدا ويدوم، وليس شيء من الأشياء يبقى فلا يفنى، ولا يصح له أبدا هذا الذِّكر والمعنى، إلا الله في البقاء(1/232)
والدوام، كما قال سبحانه: ? كل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ? [الرحمن: 26 – 27]. و? كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ? [القصص: 88]، ولكفى دليلا ببقائه وفناء كل ما سواه على تعاليه عن مشابهة الأشياء لقوم يعقلون.
وكيف يشبه الباقي الفاني ؟! في معنى ما كان من المعاني، فمن توهم الله جل ثناؤه أجزاء وأعضاء، أو أبعاضا يصل بعضها بعضا، أو اعتقد أنه يُرى، أو رُؤِي قط فيما خلا، بعين أو بصر أو رؤية أو نظر، أو أنه يدرك بحآسة من حوآس البشر، أو وصفه سبحانه بكف أو بنان، أو بفم أو لهوات أولسان، فقد شبهه بما خلقه جل ثناؤه من الانسان، وبَرِيَ واصفُه بذلك من المعرفة له والايقان، وقال في الله من ذلك بالزور والبهتان، وخالف كلما نزل الله في ذلك من النور والفرقان، فهو لرب العالمين من أجهل الجاهلين، وهو بالله جل ثناؤه من المشركين، وبما اعتقد في ذلك من أهلك الهالكين، فهذه صفته تبارك وتعالى في الإنِّية والذات، وهي صفة واحدة ليست فيه جل ثناؤه بمختلفة ولا ذات أشتات، ولو كانت فيه مختلفة غير واحدة، لكان اثنين وأكثر في الذِّكر والعدة. وإنما صفته سبحانه هو وأنه كذلك في التوراة، قال تعالى لموسى عليه السلام عند المناجاة، : (إني أنا الله إلهك، وإله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب). وكذلك قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ? هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ? [الحشر: 22 – 24]. فوصف نفسه تبارك وتعالى في أول الآيات بأنه هو، ثم ذكر سبحانه ملكه وخلقه وقدسه ما ليس له فيه نظير ولا مثيل ولا كفؤ، فمن وصفه جل ثناؤه بغير ما وصف به نفسه من العلم والقدس والحكمة،(1/233)
وما ذكر جل جلاله من العز والرأفة والرحمة، فقد خرج صاغرا بصفته، من العلم بالله ومعرفته.
والسِّنة التي ذكر الله أنها لا تأخذه، ولا تعرض له جل جلاله، هي قليل النوم ويسيره، لا النوم نفسه وكثيره، فنفى سبحانه عن نفسه من قليل مشابهة خلقه مانفى تبارك وتعالى عن نفسه من كثيرها، تعاليا عن صغير مماثلة خلقه وكبيرها، لأن ذلك كله في التشبيه له سواء، يثبت به كله أن له نظيرا في التشبيه وكفؤا.
ومن معرفة الله والايمان به، الايمان بجميع رسله وكتبه، ومن أنكر آية من تنزيله، أو جحد رسولا واحدا من رسله، خرج بذلك من التوحيد والايقان، وزال عنه - لما أنكر من ذلك - اسم الايمان، لأنه من أنكر آية من آيات الله، أو رسولا واحدا من رسل الله، كمن أنكر صنع السماء والأرض من الله، ونسب ما كان من آية أو علم أو دلالة إلى غير الله، لأنه إذا زعم أنما جاء به رسول من رسل الله من أعلامه ودلائله، أو أن آية من آيات كتب الله وتنزيله، ليست من الله ولاعن الله، ثَبَّت وزعم أن ذلك من غير الله.
ومن أضاف شيئا من صنع الله في أرضه وسمائه، أوفي سوى ذلك كله من خلقه وإنشائه، إلى غير الله فقد ألحد وكفر، وجحد وأنكر، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ? إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا، والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف نؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ? [النساء: 150- 152]. فمن فَرَّق من ذلك بين ما جمع الله وأَلَّف، خرج بتفريقه ذلك مما أقر به من توحيد الله وعَرَف، وكان منكرا بذلك كله، بإنكاره لما أنكر من أقله.(1/234)
[مرجع أهل الديانات]
وقد سأل عن هذا بعينه، وما قلت به من تبيينه، نصراني، كان يغشاني، من قبط أهل مصر يقال له سلمون، وكان ربما اجتمع عندي هو والمتكلمون، وكان هو يزعم في عيسى بخلاف ما تزعم النسطورية واليعقوبية والروم، لأن أولاء كلهم يزعمون أن عيسى عليه السلام ابن وإله، ومنهم من يقول: إنه الله. وفي ذلك ما يقول سبحانه: ? لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ? [المائدة: 17]. وكان هذا النصراني الذي ذكرنا يقول: إن عيسى عليه السلام عبد مربوب، وصنع مخلوق، وإنَّ مَن لم يقل من النصارى بقوله، وينسب عيسى صلى الله عليه إلى الخلق والعبودية، فليس بنصراني، وهو مشرك خارج من النصرانية.
فسأل يوما - وهو عندي - جماعةً من الموحِّدين، وفيهم حفص الفرد البصري وكان من المتكلمين، فقال: يا هؤلاء أخبروني فقد زعمتم أنكم تنصفون، وأنكم لا تقولون إلا بما تعرفون، من أين زعمتم أن من أنكر محمدا أو جحده، ولم يقر بما كان من النبوءة عنده، منكر لله جاحد ؟ والله فغير محمد معبود ومحمد عابد ؟ وإنكار واحد ليس بإنكار اثنين، لأن الشيء الواحد ليس بشيئين! فقد سألت منكم كثيرا عن هذه المسألة، فأجابوا فيها بجوابات مختلفة غير مقنعة، وكيف أكون لك منكرا بإنكاري لغيرك ؟ وهل تراه يصح في فكرك ؟ أن أكون بإنكاري لمحمدٍ للهِ منكرا وأنا به مقر، وله مُوحِّد مُجِلّ معظِّم مكبِّر ؟
فأجابوه فلم يقنع بجوابهم، ولم يستمع لمقالهم .
وكان مما أجبته به في مسألته، وما كان فيها من مقالته، أن قلت: أخبرني يا هذا إذ أنكرت محمدا وما جاء به من رسالاته، أليس قد زعمت أن ما كان معه من آيات الله ودلالاته، وما كان يُرِي الناس من الأعاجيب، وينبئهم به من السر والغيب، ليس كله من الله، ولاشيء منه بصنع الله، وأضفت ذلك كله إلى غير الله ؟!
فقال: بلى. لاشك ولا امتراء.(1/235)