ألا وقد سمعتم في التوراة ألاَّ تقتلوا النفس المحرمة، ومن قتلها فقد استوجب في الدنيا العقوبة المؤلمة، وأنا فإني أقول لكم: إن من قال لأخيه، كلمة قبيحة تؤذيه، فقد استوجب العقوبة، إلا أن يحدث لله منها توبة، ومن قال لأخيه ليعيره: إنك لأرغل لم تختتن، فقد استوجب في الآخرة نار جهنم، بل من قرب منكم قربانه على المذبح وأدناه وقربه ليذبحه، ثم ذكر أن أخاه واجد عليه فليدَع قربانه وليذهب إلى أخيه فيصالحه.
ألا وقد قيل في التوراة: لا تكذبوا إذا حلفتم، ولكن اصدقوا إذا حلفتم بالله وأقسمتم، وأنا فإني أقول لكم: لا تحلفوا بشيء من الأشياء، ولا تقسموا طائعين بقسم ولا إيلاء، لا تحلفوا بالسماء التي هي مكان كرسي الله، وفيها يكون ملائكة الله، ولا بالأرض التي هي منزل رحمة الله وآياته، ولا بحياة شيء، ولا برأس آدمي، ولكن ليكن كلامكم نعم وكلا، فيما تقولون وبلى، وما كان سوى ذلك فهو من السوء، [والقول الباطل] والهزوء، ومن سأل أحدكم شيا، فليعطه وإن كان نفيسا عليا.
ألا وقد سمعتم أن قيل: أحبوا أولياءكم، وأبغضوا من الناس أعداءكم، وأنا أقول لكم أحبوا في الله أعداءكم، وبَرِّكُوا منهم على من لعنكم وآذاكم، وأحسنوا منهم إلى مبغضيكم، وصِلوا منهم من يؤذيكم، لكي تكونوا من أصفياء الله، ولتفوزوا بالكرامة والرضا من الله، الذي يُطلع شمسه على المتقين والفجرة، وينزل أمطاره على الظالمين والبررة، فإن كنتم إنما تحبون من يحبكم، فأي أجر حينئذ لكم، أَوَليس المكسة والعشارون، كذلك فيما بينهم يفعلون.(1/226)


ألا ولا ترآوا الناس بالصدقة والزكاة، ولا بما تصلونه لله من الصلاة، فتحبطوا أعمالكم في ذلك لله بالرياء، وتتوفوا أجرها في عاجل هذه الدنيا، ولكن لتكن صدقتكم لله فيما بينكم وبين الله خفية وسرا، فإن الله ربكم الذي يرى سركم هو يجعلها لكم علانية جهرا، وإذا كنتم في صلاة لله أو خشوع، فلا تقوموا بذلك في السكك والجموع، كالمرآئين للناس بما هم فيه لذلك من حالهم، فحقا أقول لكم لقد تَوفَّى أولئك جزاء أعمالهم.
وإذا صليتم فلا ترفعوا أصواتكم ودعاءكم طلبا للرياء، فإن الله يعلم قبل أن تسألوه ما تحتاجون إليه من الأشياء، ولكن إن صليتم فلله وحده فصلوا، وإذا حكمتم في أرضه بحكم فاعدلوا، وقولوا ربنا الذي في السماء تقدس اسمك وحكمتك، وعظم ملكك وجبروتك، أظهر حكمك في أرضك كما أظهرته في سمائك، وارزقنا طعام فاقة يومنا، واغفر لنا سالف جرمنا، كما نغفر لمن ظلمنا، واعف عنا برحمتك وإن أجرمنا، ولا تبتلنا ربنا بالبلاء، وخَلِّصنا من مكار ه الأسواء، فإن لك الملك والقدرة، ومنك الحكم والمغفرة، أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
واعلموا أنكم إن غفرتم للناس ما بينهم وبينكم، فإن الله سبحانه يغفر لكم، وإذا صمتم فلا تغيروا وجوهكم، ليعلم الناس صومكم، ولكن إذا صمتم فاغسلوا وجوهكم وادهنوا رؤوسكم، لكيما لا يعلم الناس صومكم، فإن الله الذي صمتم له سرا، هو يجزيكم بصومكم علانية جهرا.
ألا ولا تخزنوا خزائنكم، ولا تجعلوا في الأرض ذخائركم، فإن ما في الأرض يفسده السوس وتأكله الأرضة، وتعرض له الآفات وتناله السرقة، ولكن اخزنوا خزائنكم، واجعلوا ذخائركم في السماوات العلى، حيث لا يفسد منها شيء ولا يبلى، بسرقة ولا آفة معترضة، ولا يناله أكلُ سوسٍ ولا أرضة، فحقا أقول لكم: أن حيث تكون خزائنكم وذخائركم، فهنالك تكون قلوبكم وضمائركم.(1/227)


واعلموا أن سراج الجسد العين فإن كانت العين نيرة مضيئة كان الجسد نيرا مضيا، وإن كانت العين عمية مظلمة كان الجسد مظلما عميا، وإذا كان النور الذي فيكم مظلما لا يبصر ولا يعلم، فكم ترون ظلمة حوآسكم وقلوبكم أعمى وأظلم .
واعلموا أن الله لم يجعل لأحد في جوفه من قلبين، وأنه لا يستطيع أحد منكم أن يعبد ربين، لأنه لابد له من أن يكرم أحدهما ويجله، فيقصر بالآخر عن الكرامة ويغفله، أو يهين أحدهما ويحقره، فيجل الآخر ويكبره .
وكذلك لا تستطيعون أن تعبدوا الله وتعزروه، وتسعوا للمال فتجمعوه وتكثروه، ومن أجل ذلك فإني أقول لكم: لا تهتموا بما تأكلون، ولا بما تشربون، ولا ما تلبسون، أليس ماخلق الله لكم من الجوارح والأجسام ؟! أكرم وأجل وأكبر من الشراب والطعام! أَوَليس ما خلق الله لكم من الأنفس ؟! آثر عند الله من الثياب والملبس!
انظروا إلى طير الأرض والسماء، وما خلق الله من دواب الماء، التي لا يزرعن زرعا ولا يحصدنه، ولا يدخرنه في الأهواء ولا يحشدنه، والله ربكم الذي في السماء، يرزقهن في كل يوم ما يصلحهن من الغذاء .
وانظروا إلى عشب البرية الذي لم ينسج ولم يغزل، ولم يُعن منه بشيء ولم يُعتمل، كيف يلبسه الله في حينه كل لون زينةً تبهجه! أو حسنا أو نورا، فأنا أقول لكم إن سليمان بن داود في كل ما كان فيه من ملكه وسلطانه، ما كان يقدر على أن يلبس لونا واحدا مما ألبسه الله العشب من ألوانه، فإن كان العشب في حين تنويره ذا بهجة ونور، فعما قليل وبعد يسير ما يُجعل وقودا للتنور .(1/228)


ثم الله تبارك وتعالى اسمه يلبسه من البهجة والنور ما لم يلتمسه فيكم، فكم ينبغي لكم يا ناقضي الأمانة ألا تهتموا فتشتغلوا ولا تكثروا من القول لأنفسكم ولا لغيركم ؟! فتقولوا ما نأكل وما نشرب ؟!وما نلبس وأين نذهب ؟! كأنكم بما قلتُ من هذا لا توقنون، فكل هذه الشعوب التي ترون، تبتغي ذلك ولا تبتغوا منه مايبتغون، فإن ربكم الذي في السماء يعلم ما ينبغي لكم من قبل أن تسألوه إياه، ولكن ابتغوا طاعة الله ورضاه.
فأما ما ذكرت من هذا كله فهو يعطيكموه ويعطيه، من لا يرضى عليه، فلا تشتغلوا بغد وما بعده من شغله، فحسب غدٍ أن يقوم بشغل أهله، وكفى يومكم في غده، بما في غد من كده .
ألا ولا تعسفوا أحدا بظلم فإنكم كما تدينون تدانون، والمكيال الذي تكيلون به تكتالون، فما بال أحدكم يرى القذى في عين أخيه ؟! ولا يرى السارية الشامخة في عينيه! أم كيف يقول لأخيه: اتركني أنزع من عينك قذاها! والسارية الشامخة التي في عينيه لا يراها!
أيا مخادعا مَلِقاً، ومخاتلا لغيره مسترقا، أخرج السارية أولا من عينيك، ثم التمس بعدُ إخراجَها من عين غيرك.
ألا واسمعوا مني، وافهموا ما أقول عني: لا ترموا بقدس الصواب، بين نوابح الكلاب، ولا تقذفوا بلؤلؤكم المنير، بين عانات الخنازير، فلعلهن أن يدنسنه، وينتن ما ألقيتم بينهن منه، ألا واسألوا تعطوا، وابتغوا تجدوا، واقرعوا يفتح لكم فكل سائل يعطى، ومبتغٍ يجد ماابتغى، وكل من استفتح يفتح له، وأي امرؤ منكم يسأله حبيبه أو ابنه بِرًّا أو خيرا ؟ فيعطيه مكان ما سأله من ذلك حجرا ! أو يسأله سمكة ؟ فيعطيه حية مهلكة ! فإن كنتم وأنتم أنتم في النقص والتقصير، ومنكم كل ظالم وشرير، تعطون العطايا الصالحة أبناءكم، وتجيبون عند الدعاء والمسألة أحباءكم، فكم ترون لله في ذلك ؟! وإذ الأمر كذلك، من الزيادة عليكم فيه، للذي تسألونه وترغبون إليه.(1/229)


وانظروا كما تحبون أن يفعله الناس بكم فافعلوه إليهم، وكما تريدون العدل من الناس عليكم فكذلك فاعدلوا عليهم، وإن تلك سنة الرسل والأنبياء، وميزان عدل الله في الأشياء، ألا وادخلوا لله وفي الله باب الضيق والمخاوف، فإن باب الأمن والسعة بمعصية الله سبب الهلكة والمتالف، ولَكثيرٌ ممن يدخله ويؤثره، ممن يبصر ذلك ومن لا يبصره، وما أضيق المدخل والباب! وأغفل السبيل والأسباب! التي تُبلِّغ العباد الحياة، وتوجب للناس النجاة، وأقل من يجدها! ويسهل له وردها!
ألا واحتفظوا من كَذَبَةِ أولياء الشيطان، الذين يرآؤن الناس بلباس الحملان، وهم مع ذلك ذئاب ضارية، وقلوبهم مستكبرة عاصية، فلا تغتروا بظاهر حالهم، ولكن اعرفوهم من قِبَل أعمالهم، فهل يخرج من الشوك عنب ؟! أومن الحنظل رطب ؟! لا لن يكون أبدا ذلك! ولن يوجد كذلك! ولكنه يخرج من كل شجرة طيبة ثمرة طيبة، ويخرج من كل شجرة خبيثة ثمرة خبيثة، وإنما تعرف الشجرة الخبيثة من قِبَل خبث ثمرها، فإذا كانت كذلك خبيثة أوقدتَ النار بها، وكذلك العمل إذا كان شيئا غيا، فلا يكون صاحبه إلا مسيئا غويا .
وليس كل من يقول: ربي ربي بإقراري والدعاء! يدخل يوم القيامة في كرامة ملكوت السماء، إلا أن يكون ممن عمل في دار الدنيا، بما حكم الله عليه به من التقوى، ولَكثيرٌ في ذلك اليوم من يقول ربنا باسمك هدينا وسعينا، وباسمك أخرجنا من الشياطين ما أخرجنا، وباسمك أمورا كثيرة من العجائب صنعنا، ثم يقول الله لهم في ذلك اليوم: تأخروا عني ياعمال الزور .
وقال صلى الله عليه: اعلموا أنه من سمع كلامي، فعمل بما سمع وقَبِلَه عني، فمثله كمثل رجل ذي لب وحكمة، بنى بيته على أساس من حجر محكمة، فلما جاءت الأمطار، وخرَّت فأ عظمت الأنهار، وتهيجت الرياح الكبار، جعل ذلك ينطح من كل جدر، فلم يسقط البيت ولم يخرّ.(1/230)

46 / 201
ع
En
A+
A-