أخبروني هل منكم من يرتجي الله لمعصيته ؟ فعلام تريدون قتلي ؟! ولم لا تقبلون قولي ؟! لو عملتم بطاعة الله، إذن لكنتم أبناء الله.
فجعل كما ترون الله أبا لمن أطاعه وأرضاه، وجعل الشيطان أبا لمن أطاعه واتبع هواه، فكفى بهذا حجة دامغة، وشهادة قاطعة بالغة، على مَن تأول من النصارى الأبوة والبنوة على ما تأ ولوها عليه، وما قلنا به من هذا كله فهم كلهم مقرون به في إنجيلهم لا يختلفون فيه.
فإن لم تكن الأبوة والبنوة إلا على ما قالوا، لزمهم أن يتأولوا كل ما في إنجيلهم من الأبوة والبنوة بما تأولوا، فقد يقرون كلهم من ذلك في إنجيلهم، بما سنذكره مع ما ذكرنا إن شاء الله من أقاويلهم .
زعموا أن فيها، وفيما يضيفونه إليها : (( أن المسيح خرج من القرى وتنحى، وصام في البرية أربعين صباحا، لم يأكل فيها طعاما، ولم يشرب فيها شرابا، فجاءه إبليس في صومه ومنتحاه، فعرض عليه جميع زهرة الدنيا وأراها إياه، فلما رأى المسيح ذلك كله، سأله إبليس أن يسجد له سجدة واحدة، على أن يعطيه من ذلك كل ما أراه، فلعنه المسيح وأخزاه، وقال: لا يصلح السجود لغير الله، اخس إليك يا عَدُوَّ الله، قال إبليس ـ زعموا له، عندما جرى من القول بينه وبينه ـ فاليوم لك أربعون يوما، لم تشرب شرابا ولم تطعم طعاما، فادع الله إن كنت له حبيبا، أن يجعل لك هذه الحجارة فضة وذهبا، فقال له: ألم تعلم يا لعين أن كلام الله يكفي من اكتفى به من أحب كل طعام وشراب).(1/221)


ومن كلام الله الذي ذكر صلى الله عليه ما نزّل لا شريك له من كل كتاب، وزعموا في أناجيلهم أن الله أوحى إلى يوسف بعل مريم، بعد ولادتها للمسيح بما الله به أعلم، (( أن انطلق بالصبي وأمه إلى مصر فأقم بها أنت ومريم وابنها حتى أبين لك موت هيردوس - وهو ملك من ملوك الروم كان ملكا على بني إسرائيل - فإنه يريد قتل عيسى ودماره، فرحل يوسف بمريم وابنها ليلا، وأتم الله زعموا بما كان من ذلك من أمره ببعض ما أوحى إليه من كتب رسله إذ يقول سبحانه :من مصر دعوت صفييّ .
وقالوا في إنجيلهم : ( فلما مات هيردوس أوحى الله إلى يوسف أن قد مات فانطلق بعيسى وأمه إلى أرض إسرائيل) وزعموا أن هذا كله موجود عندهم فيما في أيديهم من الإنجيل، وأنه لما قدم بهما يوسف سمع أن كيلادوس مَلِكَ من اليهود بعد أبيه، ما كان يملك أبوه، ففزع لعيسى وأشفق عليه، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه :( أن امض إلى جبل الجليل فكن فيه، فخرج حتى نزل منه في مدينة يقال لها: ناصرة ). تصديقا لما أوحى الله به قديما في بعض كتبه.
وفيما ذكر من عيسى وأمره في أنه: (( يكون ويدعا ناصريا ))، وبذلك يرى ويدعا كل مَن تَنصَّر نصرانيا .
فلما كبر عيسى وظهر في أيام يحيى، وكان يحي صلى الله عليهما ممن أجابه وصار إليه، فأمره بالتطهر والاغتسال في نهر الأردن، وكان ذلك تطهرة من الخطايا لمن تاب وآمن، فقال فيما زعموا من إنجيلهم :( أنا أطهركم كما ترون بالماء والذي يأتيكم على أثري، هو أكرم على الله مني، وهو الذي يجعل الله به المذراة، فلا يودع خزائنه إلا الحبوب المطيبة المنقاة، وما بقي بعد ذلك من الغرابلة والتبن، وما ليس بذي قيمة ولا ثمن، يحرق بالنار التي لا تخمد، حيث يبقى التحريق ويخلد) .(1/222)


فلما سمع عيسى بأخبار يحيى صلى الله عليهما وعلى جميع النبيين، وما يصنع من تطهيره للمؤمنين، ( أقبل إلى يحيى من جبل الخليل ليصبغه بالماء ويطهره، فكره يحيى عليه السلام مجيئه لذلك - زعموا – وأَمْرَه، وقال له يحيى عليه السلام: بي إليك فاقة، وتجيء إلي أنت تطلب الطهارة، فقال عيسى، صلى الله عليه وعلى أخيه يحيى: دعنا الآن من هذا فإنه هكذا ينبغي لنا أن نستتم خلال البر كلها، أوكل ما قدرنا عليه منها، فتركه يحيى حينئذ فاغتسل، وعمل في ذلك ما أراد أن يعمل ).
( ثم سمع بقتل اليهود ليحيى فانطلق إلى أرض الجليل فسكن في كفر ناحوم يتفيأ من حد زبولون ). ( وَثَّم أوحى الله – زعموا - فيه إلى شعيب صلى الله عليه، في مصير عيسى من زبولون إلى ما صار إليه، وكان في مصيره إليها ومقامه بها سيارا يسيح في أرض الجليل، يبشر ويعلِّم ما يجب لله كلَّ جيل وقبيل، ويبرىء كل مرض ووجع في بني إسرآئيل، حتى سُمع بفعاله، وتبشيره ومقاله، في كل ناحية وأرض، وأُتي بكل ذي وجع ومرض، من البرصى والمجانين، والكُمْه والمقعدين، فأبرأهم بإذن الله من أمراضهم المختلفة الهائلة، وانطلقت على إثره جموع كثيرة من كل قبيلة، من أرض الجليل، ومن المدائن العشر وأهل بيت المقدس ومن عبر الأردن.(1/223)


[وصايا المسيح عليه السلام]
( فلما رأى عيسى صلى الله عليه تلك الجموع وما اجتمع منها إليه، صعد على جبل مرتفع فارتفع عليه، ليسمع قوله كل من اجتمع فلما علا قعد عليه أدنى منه حوار ييه، ثم قال: طوبى بالروح عند الله غدا للمساكين ذوي التقوى، كيف يكون ثوابهم في ملكوت الله ودار الإقامة والمثوى، طوبى للمحزونين على خطاياهم في الدنيا، كيف يغفر الله لهم خطاياهم غدا، طوبى للمتواضعين لله كيف يرثون أرض الله، طوبى للجياع العطاش في الله بالبر، كيف يشبعون ويروون في يوم البعث والحشر، طوبى للرحماء في الله، كيف يفوزون برحمة الله، طوبى للنقية قلوبهم، إذا نظروا إلى ربهم، كيف يصنع غدًا بهم، وكيف ينتفعون عنده بكسبهم، طوبى لعمال السلام لله، كيف يُدعون أصفياء الله، طوبى للذين يُطردون لأعمال البر، كيف يملكون في ملك السماء إلى آخر الدهر.(1/224)


ثم قال صلى الله عليه، لمن أجابه ولحوار ييه: طوبى لكم إذا أنتم عُيّرتم وطُرّدتم فيّ وعليّ، وقيل لكم قول السوء والكذب من أجلي، عندها فليعظم فرحكم لما عظّم الله في السماء من نوركم، وذخر عند الله في الآخرة لكم من أجوركم، فإن تُظلموا فقبلكم ما ظلمت الرسل والأنبياء، أو يكذب عليكم فمِن قبل ما قيل على الله الكذب والافتراء، أنتم ملح الأرض فإذا أنتن الملح فبم يُملَّح، فحينئذ لا يصلح إلا أن يُرمى به ويُطرح، فيكون شيئا ملقى، وترابَ أرضٍ يوطأ، أنتم نور العالم الذي لا يخفى على من يبصر ويرى، وهل تستطيع مدينة ظاهرة على جبل أن تخفى أو تتوارى، وهل يُسرَّج السراج فيحمل تحت الأغطية، لا ولكن يحمل فوق المنارة العالية، لكي ينير فيضيء، ويظهر فلا يختفي، وكذلك أنتم تنيرون للناس بنوركم المضيء، لينظروا عيانا إلى عملكم الرضي، لتحمدوا الله ربكم الذي زكاكم، وأعطاكم من توفيقه ما أعطاكم، ألا ولا يظنن أحد أني جئت لدفع التوراة والإنجيل والأنبياء، ولا لنقض شيء جاء عن الله من جميع الأشياء، ولكني جئت لتمام ذلك كله، ولتصديق جميع ما أمر الله فيه ورسله، بل أقول لكم قولا حقا، وأنبئكم نبأ فافهموه صدقا، أنه لا تُغيَّر من آيات الله كلها آية ولا تنتقض، إلى أن تتغير وتفنى السماوات والأرض، ومن نقض من آيات الله آية، أو غيَّر من أصغر وصاياه وصية، فعلَّمها أحدا من الناس مبدّلة مغيّرة، صغيرة كانت الآية والوصية أو كبيرة، دعي في ملكوت الله خسيسا ناقصا، ومن علَّمها كما أنزلت كان في الآخرة تآما خالصا .
وحقا أقول لكم: لئن لم تكونوا من الأبرار، ويكن بركم أفضل من بر الكتبة والأحبار، لا تدخلون غدا في ملكوت الله الغفار .(1/225)

45 / 201
ع
En
A+
A-