[قواعد للحوار]
ولابد لنا ولكم من الانصاف، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا، وإن فارقنا التناصف اختلفنا، ثم لم نعد أبدا للائتلاف، إلا بعودة منا إلى الانصاف. والتناصف هو الحكَم العدل بعد الله بين المختلفين، والشفاء الشافي الذي لا شفاء أبدا في غيره للمتناصفين، فأنصفوا الحق من أنفسكم، تخرجوا بإذن الله بإنصافكم من لبسكم، وارفضوا للحق أهواءكم، تسعدوا في دينكم ودنياكم، وأقيموا ما أنزل إليكممن التوراة والإنجيل، واتركوا الافتراء على الله فيها بعمى التأويل، تهتدوا إن شاء الله لقصد سبلكم، وتأكلوا كما قال الله من فوقكم ومن تحت أرجلكم، وافهموا قول العزيز الوهاب، فيكم وفي غيركم من أهل الكتاب: ? ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما كانوا يعملون ? [المائدة: 66]، فكفى بهذا بيانا من الله في أهل الكتاب لقوم يعقلون .(1/216)


وليعلم مَن فَهِمَ منهم، أومن غيرهم، أن فيما ذكر الله لهم من المأكل ومثله، آيةً عجيبةً ظاهرةً لمن يفهمها بعقله، تدل على أنه لم ينزلها إلا علام الغيوب، الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر القلوب، لا سيما في النصارى من أهل الكتاب، وما هم عليه من الحرص والكد والاكتساب، فإنا لم نر أمة من أهل الكتاب أرغب في المأكل والمشرب، واكتناز الفضة والذهب، منهم خآصة دون غيرهم، معلوم ذلك من غنيهم و فقيرهم، ولذلك ما يقول الله سبحانه فيهم، وفي بيان ما قلنا به من ذلك عليهم: ? إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ? [التوبة: 34]. فرهبا نهم إلا القليل وشمامستهم، تعولهم أبدا أقوياؤهم وضعفتهم. وليس من الرهبان ولا الشمامسة مَن تكلَّف في مطعمه ولا مشربه ولا كسوته ولا مصلحته كلفة، ومن كفاهم ذلك من عوآمهم وضعفتهم فقد يرى ذلك قُربة له عند من يعبدون وزلفة.
فأول ما يقال - إن شاء الله - لمن أراد الانصاف لنفسه منهم، وعند من تجري المجادلة فيما ادعوا من الكتب بين أحد من أهل التوحيد وبينهم، يا هؤلاء: أنصفونا فيما ادعيتم من شهادات الكتب من أنفسكم، فلا تدعوا فيها ولا تأولوا فيها تأويلا ملتبسا يزيدكم لبسا على لبسكم، فإن شئتم تأولتم الكتب وتأولنا، على ما قد قلتم وقلنا، ولنا من التأويل مثل مالكم، وقولنا فيه يخالف أقوالكم. فإن كان ذلك أحب إليكم، فافهموا فيه ما يدخل عليكم، فلسنا ندخل عليكم فيه، إلا ما نجمع نحن وأنتم عليه.
أجمعنا نحن وأنتم جميعا كلنا، قولكم مما قلنا به من ذلك قولنا، على أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها:
فأولها: زعمنا وزعمتم شهادة الله،
والثانية: فشهادة ملائكة الله.
والثالثة: فقول المسيح وشهادته.
والرابعة: فما شهدت به أمه ووالدته.(1/217)


والخامسة: فشهادة الحواريين وما كانوا يقولون. فهذه خمس شهادات ليس منها ما تنكرون، وكلها فنحن وأنتم بها راضون، فيما ندعي في المسيح وتدَّعون.
فقد وجدنا ووجدتم في الأناجيل الأربعة شهادات مختلفة، كلها فيما عندنا وعندكم فقد أحطتم بها وأحطنا معرفة، فيما في الإنجيل الذي يُدعا عندكم إنجيلا مثل ما لا تنكرون من قوله، في أول ما وضُع من إنجيله : ( هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود )، فهذه شهادته وهو من الحواريين على أن أبا المسيح داود، وأن المسيح ابنه وهو منه مولود، ولهذه الشهادة في الأناجيل الأربعة نظائر كثيرة، وفي ذلك حجة عليكم لا تدفع ظاهرة منيرة .
ومنها شهادة المسيح صلى الله عليه لحواريه أنهم بنو الأب جميعا، وأن الله أبوهم كلهم معا، وهذا يدل على أن تأويل الأبوة والبنوة، غير ما قلتم به فيها من الدعوة .
ومنها: شهادة المسيح أن الحواريين إخوانه فإن شئتم فقولوا في نسب أو غير نسب، فلهم بذلك ماله بعد شهادته صلى الله عليه زعمتم أنه ابن الأب .
ومنها: شهادة أمه صلى الله عليها، على أنه ابن يوسف جدها وأبيها.
ومنها قول فيلبس لسائل سأله، إذ قال له عند مسألته عنه، هو ذلك الذي ذكره موسى في التوراة، ونَسَبَه صلى الله عليه فيها وسمَّاه، فقال: يسوع بن يوسف، يعرف هذا منكم كل عارف.
ومنها أيضا: شهادة يحيى التي تدل على أن معنى البنوة والولادة، إنما هو معنى المحبة والولاية والعبادة، إذ يقول: أما أولئك الذين قبلوا قوله، وسلموا فيما سمعوا منه له، فلم يولدوا من اللحم والدم، ولا من مزاج المرة والبلغم، ولكنهم - زعم - من الله وُلِدوا، وأعطوا من كرامة الله ما رضوا وحمدوا. فتأويل هذا ومثله إن كان صدق فيه، فإنما هو على ما يصح أن يكون عليه، لا على ما يستحيل في الألباب والعقول، ويفسد ويتناقض من القول في التأويل، من أن يكون الرب عبدا، و الوالد مع ولادته ولدا، وذلك أجهل الجهل، وفي ذلك المكابرة للعقل .(1/218)


أَمَا سمعوا قول الملائكة لمريم، صلى الله عليهم وعليها وسلم، عندما صاروا به من البشارة بولادتها، للمسيح ابنها، :( تلدين ابنا )ولم يقولوا: تلدين ابن الله، وقالوا:( يدعا يسوع ويكون عليا عظيما بالله، ويرث كرسي أبيه داود ) فلو كان كما يقولون لقالت الملائكة: تلدين ابن الله ويكون منك مولودا، فكان أعظم في القدر والخطر، من أن يقال: ابن البشر .
وكذلك قال المَلَكُ ليوسف زعمتم بعلِها، عندما أراد لماَّ ظهر من حملها، من تطليقه لها وتخليته لسبيلها، :( يا يوسف بن داود لا تُخَلِ سبيل امرأتك فإن الذي بها من روح الله، وهو يدعا يسوع، وبه يحيي الله شعبه من خطاياهم بإذن الله ).
ومما زعموا فاعرفوه أنه دلهم، وشهد على ما ادعوا لهم، واعتقدوا من ضلال أقاويلهم، قول الله زعموا في إنجيلهم، في المسيح بن مريم، صلى الله عليه وسلم:( هذا ابني الحبيب الصفي). وقول سمعانالصفا له :(أنت ابن الله الحق).
وما ذكروا من هذا إن صح ومثله، مما يدعون على الله وعلى رسله، فقد يوجد له تأويل، لما قالوا مبطل مزيل، لا ينكرونه ولا يدفعونه، ولا يكذبون من خالفهم فيه ولا ينازعونه .
فمن ذلك ما هم عليه وغيرهم مجمعون، لا يختلفون فيه كلهم ولا يتنازعون، من أن ملائكة الله، ومن مضى من رسل الله، لم يُسَبِّح المسيح قط ولم يعبده، ولم يزعم أحد منهم أن الله ولده .
ومن تأويل ما ذكروا من الولد والابن، في زمن المسيح وكل زمن، أن الناس لم يزالوا يدعون ابنا وولدا من تبنوا وأحبوا وحظي عندهم، وإن لم يكن على طريق التناسل ولدهم، ثم لم يزل ذلك لديهم معروفا، قديما وحديثا، ولاسيما في القدماء، من أهل العلم والحكماء، فكان الحكيم منهم يقول: يا بني لمن علَّمه، ويدعو المتعلمُ باسم الأبوة مُعلّمَه، فيقول: قد قلتَ وقلنا يا أبانا، وربما قال أحدهم: يا أبت أما ترانا.
قال بعضهم :
آباء أرواحنا الذين همُ همُ .... أخرجونا من منزل التلف
مَن علَّم العلم كان خير أب .... ذاك أبو الروح لا أبو النطف(1/219)


وذلك والحمد لله في الأمم كلها فأوجد موجود، يقوله الرحيم منهم لمن ليس بابن له مولود .
ومن ذلك ما كان يقول المسيح صلى الله عليه، كثيرا لا تنكره النصارى لحوارييه:( إذ هبوا بنا إلى أبينا، وقولوا: يا أبانا أنزل من سمائك طعامك علينا). ومن ذلك قوله لهم، صلى الله عليه وعليهم، :( قولوا: يا أبانا تقدس اسمك، لتنزل في الأرض ملكوتك وحكمك).
فهل يتوهم أحد أنه أب من الآباء يلد وينسل ويتغير ويتغذى ؟! أو يصل إليه صلب أو نَصَب أو أذى ؟! لا بحمد الله وكلا ! وتبارك ربنا عن ذلك وتعالى ! ولكنه أرحم بنا وألطف، وأعطف علينا وأرأف، من الآباء كلهم والأمهات، ومن أنفسنا فيما يهمنا من المهمات .
وقد ذكر عن بعض الحكماء، ممن مضى من أوائل القدماء، أنه كان إذا أخذ في التسبيح لله والذكر، قال: الله الذي هو في ذاته محب للبشر. وإنما يراد بالمحبة لهم، الرأفة والرحمة بهم،
وكذلك قال الرحمن الكريم: ? إن الله بالناس لرؤوف رحيم ? [البقرة: 143]. فمن أرأف بهم وأرحم ؟! وأعطف عليهم وأكرم ؟! ممن خلقهم مبتدئا فسوّاهم ؟! وأعطاهم من نعمه ما أعطاهم ؟! ثم دلَّهم تعالى على الهدى، وبيَّن لهم الغيَّ والردى. لا مَن بحمد الله وفضله! فنستمتع اللهَ بالنعم في ذلك كله.
ومما يحتج به على من كفر منهم بربه جهلا ومجانة، قول المسيح بن مريم لهم فيما زعموا من إنجيلهم أبانه :( أنا ابنه وهو أبي ) وقوله :( جئتكم من عند أبي، وما سمعت عنده فهو ما أكلمكم به، وأنتم لو كنتم منه لقبلتم ما جئتكم به من أمره، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه، ولذلك قبلتم قوله فلم تخالفوه، وإنما أنتم بنو الخطيئة والشيطان أبوها، وأنتم صاغرون لطاعتكم له فبنوها. فقالوا: نحن بنو إبراهيم، ورموه بالبهتان العظيم. فقال: لستم بولد إبراهيم ولابنيه، لو كنتم ولده لعملتم بما يرضيه، ولكنكم بنو الشيطان والخطيئة.(1/220)

44 / 201
ع
En
A+
A-