[المذهب الجامع للنصارى]
وقالت فرق النصارى كلها مع اختلافها، وافتراق قولها في أوصافها، إن سبب نزول الابن الإلهي الذي نزل من السماء، رحمة للبشر ومحافظة على الرسل والأنبياء، قالوا من أجل خطيئة آدم فإنه لما أن أخطأ، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فعصى، تبرأ الله تبارك وتعالى منه، وأسلمه إلى الشيطان باتِّباعه له. قالوا فكان في حيِّز الشيطان ودار ملكه، وكذلك زعموا كان معه فيها جميع ولده، يحكم فيهم الشيطان بما أحب من حكمه، قالوا وكان فيما ملك الشيطان من آدم ونسله، أنفس كثيرة من أنبياء الله ورسله، فمن تلك الأنفس نفس نوح ونفس إبراهيم، وغيرهما من أنفس الرسل والنبيين، قالوا فتلطف الابن واحتال لاستخراج تلك الأنفس من يد الشيطان، فلبس لذلك ومن أجله جسدا آدميا، ليكون بما لبس منه عن الشيطان خفيا، فتنكر الابن بذلك له، لكي لا يحترس الشيطان منه، فلا يُنفِذ فيه مكره.
قالوا: فلما غلبتعلى الناس الخطية، وحلت بهافيهم البلية، واستبان لآدم زعموا ما فعل الشيطان به، وما كان من غروره إياه وخديعته له، خدع عند تلك الابنُ الشيطانَ بمكره، فبلغ فيه ما أراد من أمره، فاستخرج آدم وجميع ولده، من سلطان الشيطان ويده. قالوا وذلك كله فإنما كان الابن يبذل نفسه للصلب، ولما لقي من الأذى قبله والنصَب، إحسانا من الابن إلينا وكرما، ورأفة من الابن بنا ورحما.
قالوا: فاشترى الابن البشر من أبيه، بما وصل من الأذى والصلب إليه، وذلك زعموا أن أباه لم يكن في حكمه وعدله، أن يظلم الشيطان ما جعل له من آدم وولده، إن صاروا إلى طاعة الشيطان وأمره، لأنه قال للشيطان فيما يزعمون من المقال: كل من اتبعك فهو لك.(1/211)
قالوا: فلذلك اشترانا الابن من أبيه بالعدل، وغلب الشيطان على ما كان في يده منا بالمكر. فلما استخرج آدم ونفوس الرسل والأنبياء، صعد بعد فراغه من معاملة الشيطان إلى السماء، بعد أربعين يوما مرت به، بعد الذي كان من صلبه. قالوا: فجلس عن يمين أبيه تآما بكليته وجسده وجميع ما فيه من اللاهوت والناسوت، وكل ما كان فيهما ولهما من النعوت.
قالوا: وسينزل أيضاً مرة أخرى، فيدين الأحياء والأموات عند فناء الدنيا. قالوا: ولذلك آمنا بالأب والابن وروح القدس. قالوا: والأب فهو الذي خلق الأشياء بابنه، وحفظها بروح قدسه.
فهذا - فليعلمه من أراد علمه - جماع قول النصارى وما لبسوا من اللبس، في الأب والابن وروح القدس، وفي الأ قانيم والطبيعة، وما لهم في ذلك من المقالة البديعة، التي لم يقل بها قبلهم قائل، ولم يتنازع فيها مجيب ولا سائل، وقولهم إن الثلاثة في موضع يوحدون، وفي موضع بعد التوحيد يثلثون، وفي سبب نزول الابن زعموا من أجل خطيئة آدم، وما قالوا به في ذلك من خلاف جميع الأمم، فلم نترك لهم بعد هذا من قول، يجهله منهم إلا كل جهول.(1/212)
[نقض مذاهب النصارى]
ونحن إن شاء الله مبتدئون فرآدُّون، لباب فباب بما يقولون ويحددون، فليفهم ذلك من يريد مجادلتهم من أهل التوحيد والدعوة، فإنا مُقَدِّمُون إن شاء الله من ذلك باب الأبوة والبنوة.
فقائلون لهم، جميعا جوابهم: أخبرونا عن هذه الأسماء التي سميتم ؟ وادعيتم من خرافات القول فيها ما ادعيتم ؟! من أب زعمتم وابن وروحِ قدس، لم يدل على شيء منه قياس ولا حآسة من الحوآس الخمس، ما هذه الأسماء أسماء طبيعية ذاتية جوهرية ؟! أم هي أسماء شخصية قنومية ؟! أم تقولون هي أسماء حادثة عَرَضِية ؟! فإنكم إن كنتم إنما سميتم الأب عندكم أبا، لأنه ولد بزعمكم ولدا وابنا، فليس هذه الأسماء طبيعية ذاتية، ولا أسماء أيضا قنوميةشخصية، ولكنها حادثة عرضية، عرضت عند حدوث أولاد، بين الوالدين والأولاد، ولَسْنَ بأسماء طبيعية ولا أقنوم، لا في الروم ولا في غير الروم.
والطبيعية فإنما تسمى بذاتها وطباعها، وبما يكمل ذلك كله لها من اجتماعها، لأنا بالأسماء المعلقة بالعلة المشتقة من الأفعال المعتملة أعرف، لأن اسم الطبيعة غير اسم الأ قنوم، واسم القنوم غير اسم الفعل المعلوم، واسم الطبيعة ثابت، لا اختلاف فيه ولا تفاوت، إنما هو اسم لها محدود موقَّف، لا ينصرف فيها ولا يختلف، فيدل على قنوم، ولا فعل مفعول، ولكنه اسم الشيء نفسه، يدل عليه لا على جنسه، كالأرض والسماء، والنار والماء، وأشباه ذلك من الأسماء، التي تدل على أعيان الأشياء، فهذه هي أسماءالذات والطبائع، لا أسماء الأ قانيم والصنائع.
فأما أسماء القنومية، التي ليست بطبيعية ولا عرضية، فمثل إبراهيم وموسى، وداود وعيسى، وليس في الأسماء الطبيعية، ولا في الأسماء الشخصية القنومية، أبوة ولا بنوة، ولا فعالولا قوة، إنما هي أسماء تدل على الأعيان، كالانسانية التي تدل على الانسان.(1/213)
وفيما بينا - والحمد لله - من تحديدنا الذي حددنا في الأسماء، حجة لا يدفعها في التسمية عندهم إلا من كان من أهل الجهل والعمى، لأن الأسماء عندهم للأشياء ثلاثة أسماء:
اسم جوهر كالأرض والسماء.
واسم قنوم، كَفُلان المعلوم.
واسم ثالث من عرضٍ وحدثٍ، يسمى به كل عارض محدث .
وزعمت الفرق الثلاث من النصارى - فنعوذ بالله من الجهل بالله - أنها تجد فيما في أيديها من كتب الأنبياء أن المسيح بن مريم هو الله، وأنه هو ابن الله، فجعلوا في قولهم هذا الابن أباه، ثم رجعوا فجعلوا الأب هو إياه، غفلة وسهوا واختلافا، وعماية وتخرصا واعتسافا، تصديقا لقول الله فيهم وفي أمثالهم، ومن كان يقول من أهل الجهالة بمقالتهم، ? إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون ? [الذاريات: 8–11].
وإنما أخذت النصارى وقبلت، هذه الكتب فيما زعمت وقالت، عندما صلب عندهم المسيح صلى الله عليه من اليهود، وليس أحد من خآصتهم ولا عآمتهم عند النصارى بعدل ولا محمود، ولا تقبل شهادته على يهودي مثله، فكيف تقبل شهادتهم على الله تعالى وعلى رسله.
مع أنَّ لِمَا قالت النصارى من ذلك كله مخارجَ عندنا في التأويل صحيحة، لا يعمى عنها ولا عما بَيَّنَ الله منها إلا من لم يقبل فيها من الله بيانا ولا نصيحة، ولكن النصارى تأولت تلك الكتب بآرائها، وعلى قدر موافقة أهوائها، فضلَّت في ذلك وما تأولت منه بعمى التأويل، وأضلت من اتبعها عليه عن سواء السبيل.(1/214)
فيقال إن شاء الله لهم فيما تأ ولوه من ذلك وادعوا، وافتروا في ذلك على كتب الأنبياء وابتدعوا، مما لم يسبقهم إليه أحد، ولم يقل به قبلهم مفتر ولا ملحد: إنا لم ندرك نحن ولا أنتم الأنبياء ولا المسيح بن مريم، صلى الله عليه وسلم، ولم ندرك نحن ولا أنتم أحدا من حواريه، فنسأل من أدركنا منهم عما اختلفنا نحن وانتم فيه، فتكتفوا بمن أدركتم من الأنبياء عليهم السلام في التأويل، ونجتمع نحن وأنتم على الحق فيما اختلفنا فيه من الأقاويل .(1/215)