وتأويل ? سبحان ? ومعناها، فليعرف ذلك من قراها: إنما هو بُعد الله وتعاليه، عما قالوا به من اتخاذ الولد فيه، وقول القائل سبحان، إنما معناه: بُعدان، كما يقال بينك وبين ما تريد، سبحٌ يا هذا بعيد، فالسبح هو البعيد الممتنع، والأمر المتعالي المرتفع.
فما الذي هو أمنع وأبعد، من أن يكون الله والدا أو يولد، وهذا فهو قول متناقض، محال داحض، لا يقوم أبدا في فكرة ولا وَهمٍ، ولا يصح به كلام من متكلم .
ولذلك من محاله، وتناقضه وإبطاله، ما يقول الله سبحانه تعاليا عن قولهم وبعدا: ? وقالوا اتخذ الله ولدا ?، والمتخذ عند كل أحد فهو المستحدث المصطنع، وما اتُّخِذ فاصطُنِعفهو يقينا المحدَث المبتدَع، والوالد كما قد بينا في صدر هذا الكتاب كالمولود، في مالهما بالذات والطبيعة من الخاصية والحدود، فجعلوا الإله البديع كالمبدوع، و الرب الصانع للأشياء كالمصنوع، وكلهم يزعم أن الله صانع غير مصنوع، ومبتدع لجميع البدائع غير مبدوع، وإذا صح أن السماوات والأرض وما فيهن لله، وأن قيام ذلك ووجوده وصنعه بالله، وما قضى من أمر فإنما قضاؤه له، بأن يبتدع صنعه وفعله، لا بنَصَب ولا علاج، ولا أداة ولا معاناة ولا احتياج، ولكنه يُتِم كَونه وصنعَه، إذا هو أراده وشآءه.
وإذا قيل أَمَرَ الله في خلقه وقضى، فإنما هو من الله بمعنى أراد الله وشاء، وما ذكر من قنوت الأشياء لله، فإنما هو قيامها ووجودها بالله، وتأويل قوله: ? له ما في السموات والأرض كل له قانتون ?، إنما هو كل به ومن أجله كائنون.
وسواء في هذا الباب، وفيما ذكر منه في الكتاب، قلت: له، و به ومن أجله، وكما يقال: فعلت ذلك بك ولك، وكذلك يقال: فعلت ذلك بك ومن أجلك.(1/201)
ولما أن صح بأحق الحقائق، وأَوجَدِ ما يكون من الوثائق، أن السماوات والأرض ومن فيهن لا تكون أبدا إلا من واحد، صح أن ذلك لا يكون أبدا من مولود ولا والد، فكان القول - مع صحة هذا ونحوه وأمثاله، بما قالوا به في الولد - من أخبث القول وأحول محاله!! وأيُّ تناقض في مقال يقال أقبح ؟! أو محال بتناقض فاحش أوضح ؟! من قولهم اتخذ الله ولدا فجعلوه متخِذا مولودا! وهم يقولون مع قولهم ذلك أن الولد لم يزل قديما موجودا، لم يفقد قط ولم يزل، ولم يتغير حاله ولم يتبدَّل، فمن أين يكون مع هذا القول منهما ولد ووالد ؟! وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد! وكيف يكون متخَذا حدثا مَن لم يزل موجودا قديما، وإنما يكون المتخَذ المستحدَث مَن كان قبل أن يُتَّخذ مفقودا عديما. فقالوا جميعا كلهم: هو اللهوولده، ثم زعموا مع ذلك أنه ابنه يسبحه ويعبده، والمولود عندهم في الإلهية والأزلية كالوالد، فصيّروا الرب المعبود في ذلك كله كالمربوب العابد، فهل وراء ما قالوا به من التناقض في ذلك على الرب ؟! من مزيد في تناقض أو محال أو إبطال أو إفساد أو كذب، يقول به قائل مناقض محيل، ويضل في مثله إلا تائه ضليل، قد عَظُم في المحال والتناقض إسرافه، وقلَّ في المقام بالباطل لنفسه إنصافه، فهو يلعب في حيرته ساهيا، ويخوض في غمرته لاهيا .
وفيه والحمد لله وفي أمثاله، ممن قال على الله بمقاله، ما يقول الله تعالى: ? فسبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون، فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ? [الزخرف:82 - 83]. وفي ذلك ما يقول سبحانه: ? ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ?[سبأ:39 - 41].(1/202)
وفي إحالة قول من قال بالولد، من أهل الكتاب ومن كل ملحد، ما يقول سبحانه: ? لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ? [مريم: 89- 95]. والإدُّ من الأمور والأقاويل، فما امتنع امكانه في العقول، فلم يُطق له أحد احتمالا، وكان في نفسه فاسدا محالا، وهو كما قال الله سبحانه: ? وما ينبغي ?. وذلك فما ليس بممكن ولا متأتي.
فأي ممتنع من الأمور أبعدُ إمكانا ؟! مما قالوا به في الولد على الله بهتانا، وهل يمكن السماوات والأرض في عقل أو لب، أن تكون من ابن أبدا أو أب، وهل الابن إلا كالأبناء، وكذلك الأب فكالآباء، فإن لم يكن كهم زال أن يكون أبا أو ابنا، ولم يكن ذلك أبدا في الأوهام ممكنا، لأنه إن لم يكن أب وابن كأب وابن في الأبوة والبنوة مثله، زالت الأبوة والبنوة واسمها كلها عنه، وإن كان الابن للابن مثلا، كان مثله خَلقًا مجتبلا، ومتىجعلوا المسيح ابنا وولدا، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا، ومتى أنكروا أنه كغيره من الأبناء عبد لله، أنكروا صاغرين أن يكون كما قالوا ابنا لله، أفليس هذا من القول هو المحال بعينه ؟! وما يحتاج أحد يعقل إلى تبيينه !!
إذ يثبتون من ذلك في حال واحدة ما ينفون، وينفون من مقالهم في حال واحدة ما يثبتون .(1/203)
ولله تبارك وتعالى من الحجة والرد، في كتابه على من قال عليه بالولد، ما يكثر عن الله عن أن نحصيه أو نعدده، أو يدرك مدرك سوى الله أمده، وكفى بما ذكرنا والحمد لله حجة وردا، على من زعم أن لله تبارك وتعالى ولدا، من فرق النصارى واليهود، وأهل الفرية على الله والجحود، ممن جعل لله سبحانه ندا أوضدا، وجعله والدا أو ولدا، فليفهم حجج الله في ذلك كله من كان لله موحدا، وليتفقد تناقض قولهم فيه وفساده، وإحالته واختلافه، يجد قولا محالا فاسدا، متناقضا مختلفا.(1/204)
وفيه ما يقول الله سبحانه، لنبيه صلى الله عليه وآله ورفع شأنه: ? وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ? [الكهف: 3-5]. فأخبر سبحانه بأسف رسوله، صلى الله عليه وآله، من قولهم على الله سبحانه بالفاسد المحال، وبأ خبث ما يقال من متناقض الأقوال، ونبأَّ الله جميع عباده، بجهلهم لقولهم فيه وفساده، بقوله سبحانه: ? مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ?، ووجدنا ما قال الله من كذبهم فيه وقلة علمهم لازما واجبا، وكان ذلك على ما قال به من أهل الكتاب، أَوكَدُ لما يقولون به من ربوبية رب الأرباب، فكلهم يثبت لله الربوبية، ويصحح له الوحدانية، وجميعهم - وإن زعم أن لله ولدا - يقر بربوبيته ووحدانيته، ويشهد له بدوامه وأزليته، التي لا يصح لهم أبدا ما يقولون به منها، إلا بتركهم لمقالتهم في الولد والرجوع عنها، ولن يرجعوا عن ذلك مصارحة أبدا، وإن هم قالوا أن قد اتخذ الله ولدا، لأن في رجوعهم عن القول لله بالوحدانية والأزلية، لحوقهم عند أنفسهم بقول أهل الجاهلية، من عبدة الأوثان، والنجوم والنيران، وذلك فما لن يقولوه، وإن لم يعرفوا الله وجهلوه، لفساد ذلك عندهم وشناعه، وبُعْد إمكان ذلك في الله وامتناعه، ولذلك ما يقول جلَّ جلاَلُهُ، عن أن يصح عليه تشبيه شيء أو يناله، في أزلية قديمة أو ذات، أو صفة ما كانت من صفات، إذ في ذلك، لو كان كذلك، إشراكُ غيره معه في الإلهية، إذ كان شريكا له في القدم والأزلية.
فتبارك الله الذي ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى:11]، وجل ربنا عن أن يكون له في شيء كفؤ أو نظير! وأنى وكيف يكون خلق كخالقه ؟! وهل يصح من ناطق بهذا لناطقه ؟! لا ولو تظاهر الخلق جميعا عليه، لما صح لهم والحمد لله أبدا منطق فيه.(1/205)