والنصارى كلها فقد تقر بطعمه وحزنه واغتمامه، وتحمده بما كان من صبره وآلامه، التي كانت وصلت إليه عندهم في الضرب والصلب، وما كان يلقى في سياحته وأمره ونهيه من الدؤب والتعب، وفيما جعل الله من طعمه وأكله من الآيات البينة الجلية، ما يُبطل ما قالت به النصارى فيه من الأقوال الكاذبة المفترية الرديَّة، و في نسبة الله له المعقولة في الدنيا والآخرة إلى أمه، ما يدل - والحمد لله - مَنْ رَشدَ على أنها من أصله وجِرمه، وأنه في ذلك كله كمثلها، إذ هو منها ومن نسلها، آباؤها آباؤه، وغذاؤها غذاؤه.
فَلْيَفهم هذا - مِن أمره وأمرها، وعند ذكره في النسب وذكرها - مَن يفهم ويعقل، ولا يتجاهل منه ما لا يُجهل. وليعلم أن قول الله سبحانه كثير في كتابه: ابن مريم، وترديده في ذلك لذكره بها صلى الله عليه وسلم، فيه من تيقن الثَّلَج، وغوالب الحجج، التي يثلج بها كل قلب، ويغَلب فلا يُعلى بغلب، إذ تقرر من ولادتها له ما لا ينكره من النصارى ولا غيرها منكر، ولا يتحير فيه مِنْ كل مَن عرفه بها ولا بما كان له من ولادتها مُتحيِّر، إذ جعله الله سبحانه ابنها، وجوده منها وعنها، منها كونه وفصوله، وأصولها كلها أصوله، وكل ما لزم فرعَ شيءٍ من تغيير أو فناء لزم أصله، وكذلك كل ما كان من ذلك للأصل فهو له، لا يأبى ذلك ولا يكابره، إلا فاسد العقل حائره.
وفيما قلنا به والحمد لله من ذلك، وأن عيسى صلى الله عليه كذلك، ما يقول الله سبحانه: ? ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ? [المائدة: 75]، فأي آية أدل لهم على أنه مثلهم من أكله للطعام لو كانوا يعقلون، فلقد جهلوا من هذا - وَيْلهم - ما لم يجهل قوم نوح إذ يقولون: ? ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذاً لخاسرون ? [المؤمنون: 34].(1/196)


[مصادر عقائد النصارى]
ومن قبل ما قالت به النصارى في المسيح بن مريم ما قال بمثل قولهم المشركون، فزعموا أن ملائكة الله المقربين، ولدٌ وبنات لله رب العالمين.
ومنهم ما قبلت النصارى أقوالها، وحَذَتْ في الاشراك بالله منهم مثالها، وهو قول كان يقول به في الأوائل الروم والقبط وأهل الجاهلية، من كان يقول في النجوم السبعة بتثبيت الربوبية لها والإلهية، وكانوا يزعمون أن النجوم السبعة ملائكة لله ناطقة، وأنها آلهة مع الله - لما تم بها كونه - خالقةٌ، وأن الله سبحانه صنعهن منه صنعاً، ولم يبتدعهن لا من شيء بدعا، فلما أكملهن تبارك وتعالى وتم تمامهن، كُنَّ كلهن به وعنه قال لهن:
أنتن آلهة الإلهية بكنَّ عقدُ كلِ معقود وحل كل محلول، وزعموا أن بهن وعنهن كانت من الحيوان المايتجَعْلُه كل مجعول، بهن كان وجوده وقوامه، ومنهن كان صنعه وتمامه، وأنهن علةٌ واسطة بين الله وبين الأشياء، وأن الله الصانع لهن ولغيرهن به ماتت الأحياء، وكان الله لا شريك له إله الآلهة العليُّ الذي لا يمثلونه بشي، والأول القديم الذي لم يزل تبارك وتعالى من غير أول ولا بَدِي، وأنه هو المبتدئ الصانع للنجوم السبعة، المتعالي عن مشابهة كل مصنوع كان أو يكون وكل صنعة .
وكذلك قالت النصارى: إن الله خلق الأشياء بابنه نفسه، وحفظها ودبَّرها بروح قدسه، وإن الابن خلق الخلق وفطره، وإن روح القدس حفظ الخلق ودبَّره، وزعموا أن قوة الخلق غير قوة الحفظ والتدبير، وأن الأب لم ينفرد من ذلك كله بقليل ولا بكثير، وأن حال الأب والابن وروح القدس في الإلهية واحدة، وأن عبادة كل واحد منهم عليهم واجبة.(1/197)


وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبَّره بالنجوم السبعة، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة، فأقوالهم كلهم في أن لله ولدا واحدة غير مفترقة، وفريتهم جميعا في ذلك على الله فكاذبة غير مصدقة، إذ شبهوا بالله غيره، فجعلوه ولده ونظيره.
وفي القول بالولادة والاشتباه، إبطالٌ من قائله لكل إله، لأنهما إذا تماثلا واشتبها، لم يكن كل واحد منهما إلها، لأنه لا يقدر مع تشابههما أحدهما على إبطال الآخر، وإذا لم يقدر على إبطاله كان عاجزا غير قادر، ومن كان في شيء من الأشياء كلها عاجزا، كان عجزه له عن الربوبية والإلهية حاجزا.
وإن قال قائل كان كل واحد منهما قادراً على إبطال نظيره، ففي ذلك أدل الدلائل على نقص كل واحد منهما وتقصيره، وإذا كان كل واحد منهما منقوصا مقصّرا، لم يكن من الأشياء كلها لشيء صانعا مدبرا، ليس له كفؤ من الأشياء كلها ولا مثل ولا نظير، ولم يوجد في السماء ولا في الأرض ولا فيما بينهما صنع ولا تدبير، والصنع فقد يُرى بالعيان في ذلك كله قائما موجودا، فكفى بذلك دليلا بيِّنا على أن لهذا الصنع العجيب صانعا لا والدا ولا مولودا.(1/198)


ووجود صانعه أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا، وأنه واحد صمد ليس والدا ولا مولوداً، ولن يجد ذلك أحد أبدا، إلا الله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يزل تبارك وتعالى واحدا صمدا، ليس من ورائه أزلي مصمود، ولا أوَّليٌّ من الأشياء موجود، فيكون متقدما أوَّلاً قبله، فلا يكون الله هو الخالق له، بل هو الله الخالق الأول القديم، الذي ليس لغيره عليه أولية ولا تقديم، ولكن كل ما سواه، فخلق ابتدعه وأبداه، فَوُجِد بالله خلقا بديا بعد عدمه، بريا من مشاركة الله في قدرته وقدمه، بينة آثار الصنع والتدبير فيه، شاهدة أقطاره بالحدث والصنع عليه، مختلف مؤلف، ضعيف مصرَّف، مجسم محدود، متوهم معدود، قد ناهاه قطرُهُ وحَدَّه، وأحصاه مقداره وعَدَّه، فهو كثير أشتات، له نعوت وصفات، كثيرة متفاوتات، كذلك الحيوان منه والموات.
فليس يوجد أبدا الواحد الأزلي، الذي ليس له مثل ولا نظير ولا كفي، إلا الله تقدست أسماؤه، وجل ذكره وثناؤه، وفي ذلك وبيانه، ومن حججه وبرهانه، ما يقول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، فيما نزل من كتابه المجيد، في سورة الإخلاص والتوحيد: ? قل هو الله أحد ? [الإخلاص:1]. والأحد فمن ليس له والد ولا ولد، ? الله الصمد ? والصمد فهو الغاية في كل خير والمعتمد، الذي ليس مِن ورائه، مَن يسمى بأسمائه، فيستحق منها كما استحق الله شيا، فيكون لله فيما يُسّمى به منها كفيا، كما قال الله سبحانه في كتابه، وما نزل من البيان على عباده، فيما كان لله تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى متسميا: ? رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ? [مريم: 65].
وفيما نزّل سبحانه من أنه ليس له كفؤ ولا نظير، ما يقول: ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11]. و? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام: 103].(1/199)


وفي أنه ليس له شبيه ولا كفي، ولا مثيل ولا بَدِي، ما يقول الله سبحانه: ? لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ? [الإخلاص:3-4]. وكيف يولد من لم يزل واحدا أولا ؟! أو يلد من جل أن يكون عنصرا متحللا ؟! لا كيف والحمد لله أبدا ! يكون الله والدا أوولدا! فنحمد الله على ما منَّ به علينا في ذلك من البيان والهدى، ونعوذ بالله في الدين والدنيا من الضلالة والردى.
فليسمع - من قال بالولد على الله، من كل من أشرك فيه بالله، من اليهود والنصارى، والملل الباقية الأخرى - حُجَجَ الله المنيرة في ذلك عليهم، ففي أقل من ذلك بمنِّ الله ما يشفيهم، من سقم كل عمى عارضهم فيه أو داء، ويكفيهم في كل قصد أرادوه أو اهتداء، ففي ذلك ما يقول الله سبحانه لهم كلهم جميعا، ولكل من كان من غيرهم لقوله فيه سميعا، ممن لم يَعْمَ عن قول الله فيه عماهم، ولم يَعتَدْ على الله فيه اعتداءهم: ? وقالوا اتخذ الله ولدا ? [البقرة:116]، فقال الله إنكارا لقولهم فيه وردا :? سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون، بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ? [البقرة:116-117].
وفي ذلك وتبيينه، وفي افترائهم فيه بعينه، ما يقول الله سبحانه: ? وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون، بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم يكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام: 100 - 103]. ومعنى خرقوا، فهو: افتروا واخترقوا، باطلا وبهتانا، وعماية وجهلا وطغيانا.(1/200)

40 / 201
ع
En
A+
A-