وليس عنده من وجوه المعارف التي عددنا كلها وجه! ولا له في الجهل بالله لفاحش عصيانه مثل ولا شِبْه، يقول أبداً فيكذب، ويخوض أبداً ويلعب، فقوله خوض وزور، وفعاله فسادٌ وبُور، ولا يُصدِّق قولَه بفعال، ولا يُقَوِّم دعواه إلاَّ بمحال، لا يفهمه عنه لبيب، ولا يُصَوِّب مذهبه فيه مصيب، كالبهيمة المهملة الراتعة، التي لا همة لها إلا في مأكل أو متعة، كما قال الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: ?والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم?[محمد:12]. وقال سبحانه: ? أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ? [الأعراف :179]. وقال سبحانه: ? ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ?[الحجر:3].
فنعوذ بالله يا بني من مثل حالهم، ونرغب إليه في السلامة من سوء فعالهم، وحسبنا الله في معرفته دليلاً وداعياً، وموفقاً سبحانه للعلم به وهادياً.(1/16)
[تفصيل طرق المعرفة]
فأول باب: وصفناه من دركه سبحانه بمباشرة الحس، والباب الثاني: من دركه سبحانه بمباشرة النفس، ففاسد أن يكون الله سبحانه بواحد منهما مدركاً أو معروفاً، لأنَّه إن عُرِف أو أُدرِك بما أُدركا به أو عُرفا كان بصفتهما موصوفا، يجري عليه ما يجري عليهما، ويضاف إليه تعالى ما يضاف إليهما، من تجزئة الكل والأبعاض، وَأَلَمَّ به ما يُلم بهما من الآلام والأعراض.
لأن ما يُدرك من كل محسوس، وإن كان خلافاً لما يعقل من النفوس، فلن يخلو من أن يكون خليطين خُلطا فامتزجا فتوحدا، أو أخلاطاً كثيرة عُدْنَ مزاجاً واحداً، فتبدلن عن حالهن الأولى، وصِرْنَ كونا من الأكوان التي تبلى، وما كان كوناً لزمه ما يلزم الأكوان، ولم يتقدم الحركة ولا الأزمان، وكان فيهما محظوراً، وبما حصرهما من الحدث محصوراً.
وحدثُ الحركة والزمان، وقرائنهما من الجسم والصورة والمكان، فما لا ينكره ـ إلا بمكابرة لعقله، أو فاحشِ مستنكَر من جهله ـ مَن سلمت من الخَبَل نفسه، ونجت من نقص الآفات حوآسه.
وكل نفس فذاتُ قوىً شتى مختلفة، كل صفة منها فسوى غيرها من كل صفة، واختلافُ قوى كلِّ نفس فمعروف غير منكر، منها التوهم والفكر، وغيرهما من التذكر والخَطْر .
وقوى كل نفس فمتممة لها، لا يمكن أن تزايلها، لأنها إن زايلتها قوة من قواها المتممة لكونها، وما وصفناه من محدود كمال شؤونها، كان في ذلك من زواله زوالها، وزال عن النفس بزواله عنها كمالها، وفنيت النفس بفنائه، ولم تبق النفس بعد بِلائه.(1/17)
ألا ترى أن قوى النفس المتممة لكونها، ومحدود كمال شؤونها، كحرِّ الشمس ونورها، وغيرهما مما لا قوام للشمس دونه من أمورها، وكذلك قوى النار في إحراقها وحرها، كقوى النفس في توهمها وذكرها، فإن فني حر الشمس أو نورها فَنِيَت، وإن بلي إسخان النار أو إحراقها بَلَيِت، وكذلك النفس إن زايلها، ما جعله الله من القوى لها، فزال فكرها عنها، أو فني توهمها منها، فنيت بفنائه، وبليت مع بلائه.
وفي ذلك، إذا كان كذلك، دليل مبين، وعلم ثابت صحيح يقين، أن النفس كثيرة عددا، وأنها ليست شيئا واحداً، فكل نفس فغير واحدة، ولكنها كثيرة ذات عِدَّة، والله تبارك وتعالى فواحد فرد، وقوته فمفردة ليس لها حد، ومن لم يكن واحدا فردا، ونهاية في الدرك صمدا، كان متحآداً معدودا، وأشتاتاً متناهيا محدودا.
والباب الثالث: من دركه سبحانه بمخايل الأوهام، ففاسد لتشبيهه فيه بمتوَّهم مخايل الأجسام.
والباب الرابع: من دركه سبحانه بالظن فقد يمكن ويكون، إذ كانت قد تخطئ وتصيب الظنون.
فصواب الظن في أنه قد يصيب فيه سبحانه، وخطأ الظن فيه فمُنَحًّى عنه مقطوعة الأسباب فيما بينها وبينه.
والباب الخامس: من دركه سبحانه بالدلالة فموجود لا يعنف، وصحيح ثابت في الألباب لا يختلف.
والباب السادس: من دركه سبحانه بحال واحدة مما عددنا، ففاسد فيه تبارك وتعالى بما أفسدنا.
والباب السابع: من دركه سبحانه بكل ما عددنا وحددنا من الخلال، فأحول ما يتوهم من وجوه المحال، لما يجمع مما لا يجتمع في حس ولا عقل ولا وهم، وفي ذلك أن يكون كذلك أعدم العُدْم !!(1/18)
والباب الثامن: معرفته سبحانه بخلاف الأشياء كلها فلبابُ كلِ لباب، وأصح ما يُدرِكه به ـ سبحانه ـ من خلقه أولو الألباب، لأنه إذا صح أنه غير مدرَك سبحانه بدرك هذه الأشياء وأوصافها، وكان لابد لمن أدرك هذه الأشياء دركا صحيحا من أن يكون مدرَكا بصحة لخلافها، بيقين ـ من دركه لها ـ مبتُوت، كدرك الحياة وخلافها من الموت، ودرك الصحة وخلافها من السّقَم، ودرك الشباب وخلافه من الهرم، وغير ذلك من اختلاف الأشياء كلها، وما يوجد لها من الاختلاف في فرعها وأصلها، وإذا كان ذلك كذلك، وصح ما ذكرنا في النفوس من ذلك، كان واجبا وجوب اضطرار، وثابتا من النفوس في أثبت قرار، دركُه سبحانه ووجدُه عند دركها ووجودها، إذ هو خلافٌ سبحانه لكل ما يوجد من موجودها.
فإن قال قائل: فِلمَ لا تجعل خلاف الأشياء كلها العدم ؟! فقد يحيط بخلافه للأشياء كلها الوهم ؟!.
قلنا: إن العدم ليس بمعنى موجود، وليس مما له إِنيِّةٌ ولا حدود، وإنما مطلبنا فيما قلنا، للخلاف بين ما قد عقلنا، من ذوات الإنّيّة الموجودة الثابتة بالحس، أو الشهادة البآتَّة من درك النفس، أو ما يدرك خلافا لهما جميعا، فيوجد أثر تدبيره بَيِّناً فيهما معا.(1/19)
فأما ما ليس بذي أَيْس، ـ ولا يُدرك درك محسوس، ولا يعرف بفرع ولا سُوس، ولا يُبِين عن نفسه بأثر من تدبير، ولا يُستدل على وجوده بدليل منير ـ فليس فيه لنا مطلب، ولا لنا إليه بحمد الله مذهب، وإنما قولنا في العدم، إنه خلافٌ في الوهم، لا في حقيقة للعدم موجودة، ولا عين منه قائمة ولا محدودة، وإنما يطلب خلاف الأشياء كلها في حقائق الأعيان، بما يُدرك في العقل والعلم من الاختلاف بِبَتِّ الايقان، وكذلك وجدنا الاختلاف الصَّحيح اليقين يكون، بين ما يُحَس أو يُعقَل من الأشياء التي لها كون، فأما العدم الذي هو ليس، والذي لم يُتوهم له قط أَيسٌ، فليس في بُعِده من أن يقال: مختلِف بحقيقة أو مؤتلِفٍ وهمٌ، وليس لأحد علينا والحمد لله في اختلاف منه ولا ائتلاف متكلَّم، هو غير ذي شك عدمُ الأعدام، ولا يرتفع عنه إلا بعبارة المنطق نطق الكلام.(1/20)