الرد على النصارى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يزل ولا يزال، وله الكبرياء بَدِيًّا والجلال، البري من كل تغيُّر وزوال، وتبدُّل وحركة وانتقال، أو فناء أو احتيال، المتعالي عن أن يكون لشيء أصلا متأصلا، أو عنصرا من عناصر الأشياء كلها متحللا، فيكون كواحد منها، أو كما بان من فروعها عنها، فكثر من قلته بتفرع بعد قلة، أوعزَّ بكثرته بتجمع من ذلة، ولو أن ذلك، كان فيه كذلك، لعاد غيره له ندا ومثلا، إذ كان له سبحانه محتدا وأصلا، ولكان حينئذ لكل ما كان منه، ووجد من فروعه وعنه، ما كان من التوالد له، إذ كان المتولد منه مثله.(1/191)
[مشابهة الفروع للأصول]
وكذلك يوجد لكل فرع كان من أصل، ما يوجد لأصله من التوالد مثلا بمثل، كفرع ما يُرى من الأشياء كلها، التي تتولد يقينا عيانا من نسلها، مثل ما يتولد غير مرية من أصلها، كما يُرى من ولادة الأبناء، لمثل ما يتولد من الآباء، سواء ذلك كله سواء.
وكذلك ما يرى من متولد الشجر وغير الشجر، فكالأنثى في ذلك أجمع والذكر، يتولد في ذلك كله من أولاده، ما يتولد سواء من والده، فكل شيء أبدا كان ممكنا في أصل ووالد كون وجوده، فمثله ممكن سواء في نسله ومولوده، لا يمتنع مما قلنا به في ذلك وقبوله، إلا مكابر في ذلك لعلمه ومعقوله. و لذلك وما فيه من الامكان، وما يدخل به على أهله من النقصان، ما تقدس الله عنه، وجل وتطهر منه، فلم تمكن فيه منه سبحانه ممكنة في فكر ولا مقال، وكان القول عليه جل جلاله بذلك أحول مُحال، إذ في أن يكون شيء له ولدا، وأن يكون لشيء أصلا ومحتدا، إبطال الإلهية والربوبية، و زوال الأزلية والوحدانية، وإذ لا يكون واحدا من كان له ولد أبدا، ولا يكون أزليا من كان أبا أو والدا، لأن الابن ليس لأبيه برب، وكذلك الرب فليس لمربوب بأب، إذ كان الابن في الذات هو مثله فكلاهما من الربوبية قاصٍ متبعِّد، إذ ليس منهما من هو بها متفرد متوحد. لأن الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد.(1/192)
ولكل ولد في ذاته، ما للوالد من صفاته، وكذلك والده فله في الذات، مثل ما للولد في ذلك من الصفات، كالانسانية التي للابن منها ما لأمه وأبيه، وفي الأبوين منها ومن كمالها مثل ما فيه، فليس له من الانسانية وحدودها، ولا مما يوجد فيه وفيهما من مو جودها، أكثر مما لهما منها، وكل واحد منهما فغير مقصر عنها، ولتمامهما جميعا فيها، وفطرة الله لهما عليها، كان الابن ولدا لهما ونسلا، وكانا له بها محتدا وأصلا، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه، لعيسى صلوات الله عليه ورضوانه، فيما نزل من الكتاب، في يوم البعث والحساب، توقيفا وتعريفا له وللعباد، على أنه قد يجب للوالد في الذات ما يجب للأولاد، وتوبيخا لمن أفرده دون أمه في العبودية والإلهية، وحالهما في الذات حال واحدة مستوية، فعبدوه عماية وجهلا دونها، وهم يعلمون أنه ابنها ومنها، ويوقنون فلا يشكّون أن أباها أبوه، فهي وآباؤها أولى منه بما أعطوه، إذ كان لولا وجودهم لم يوجد، ولولا ولادتهم له لم يولد.
فكيف يعبدونه دونهم، ولم يكن قط إلا منهم، فهو في الذات كَهُم، إلا أن يفرقوا بينه وبينهم، بحال يخصونه بها دونهم، أو بغير ذلك من فعل من الأفعال، هو سوى ما يجمعهم وإياه في الذات من الحال، فكيف وذلك غير قولهم، وما يبنون عليه من أصلهم.(1/193)
[عيسى بشر]
فاسمعوا لقول الله في ذلك وبيانه، وما بيّن فيه جل جلاله من تفصيله وفرقانه، إذ يقول له صلى الله عليه، في ذلك من غير ما سخطة منه عليه ولا لوم فيه : ? يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ? [المائدة: 116]، فسبح الله جل جلاله إكبارا له عن أن يقول في ذلك على الله علاَّمِ ما كان وما يكون بقولِ إفكٍ مفترٍ مكذوب، لايصح فيه أبدا قول في فطرة، ولا يقوم في سليم عقل ولا فكرة.
وقال صلى الله عليه: ? ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ? [المائدة: 117]، فأنبأهم صلى الله عليه أنه عبد الله كما هم كلهم جميعا عبيد، وأخبر الله سبحانه من قوله في ذلك بما لا تنكره النصارى كلها وإن اختلفت في أديانها، وفرَّقتها البلدان في كل مفترق من أوطانها، لما رأوا منه عيانا، وأيقنه من غاب منهم إيقانا، من عبادته عليه السلام لله واجتهاده في طاعة الله، وكان في ما عاينوا من مشابهته لهم في الخلقة دليل مبين على أنه عبد لله، يجري عليه من حكم الله في أنه عبد لله ما جرى عليهم، بما بان من أثر تدبير الله وصنعه فيه وفيهم.
وفيما قلنا من ذلك ومثله، في أن الفرع من الشيء له ما لأصله، ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ? قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ? [الزخرف: 18]. يخبر جل جلاله عن أنه قد يجب للولد ما يجب للوالدين، في كل ما يجب لهم بالطبيعة والذات، لا فيما يجب من ذلك بالأعراض المحدثات.(1/194)
ولو كان عيسى صلى الله عليه كما قالوا ربا وإلها، وعن أنه لله عبد أو صنع معظما في ذاته منزَّها، لكان لأمه من ذلك ما له، إذ كانت في الذات مثله، بل لكان ينبغي لمن ولده أن يكون أعلى من ذلك منزلة منه، إذ كان وجوده صلى الله عليه به وعنه.
وليس أحد من النصارى يُثبت لمريم ما يُثبت لابنها من الإلهية، بل كلهم يقول: إنها أَمَة من إماءِ الله محدثة غير قديمة ولا أزلية، وقد يلزمهم صاغرين فيها، من إضافة الإلهية إليها، ما قال الله تبارك وتعالى فيهما، إذ الحكم واقع بالاشتباه في الذات عليهما، فهي في ذلك كله كولدها، إذ روحه من روحها وجسده من جسدها.
فإن لم يكن ذلك، فيهما كذلك، زالت البنوة عنه منها، وزال أن تكون له أُمًّا عنها، فلم تكن له أُمّا ولم يكن لها ابنا، إذ لم تكن إلا موضعا له ومكانا، إلا أن يجعلوا الأماكن أمهات لما كان فيها، فيقع ما قالوا من أنها أم له عليها .
فأما إن جعلوها من طريق ما يُعْقَل أُمَّا له، فقد جعلوها في الطبيعة لا محالة مثله.
وإذا كان ذلك، فيهما كذلك، جعلوه صاغرين كأمه إنسانا لا ربا ولا إلها، وكان الناس كلهم إذ هو مثلهم في ذلك له أمثالا وأشباها، لا افتراق بينه وبينهم في الإنسية، ولا تفاوت بينه وبين جميعهم في الجنسية، ولذلك كان يطعم صلى الله عليه كما يطعمون، ويألم مما يؤلمهم كما يألمون، ويقيمه كما يقيمهم الشراب والطعام، ويعرض له الحزن والغموم والاهتمام .(1/195)