وكيف يصنع والدٌ ولداً ؟! وإنما كان بالأمس مولوداً، إذاً يكون الوالد من صنع ولده، كما الولد من صنع والده، لأنهما كفؤان في الميلاد، وولدان كالأولاد، ولكن ذلك كما قال الله الشريك له، وما بيَّنه في كتابه ونزله، ? لله ملك السموات والأرض يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير ? [الشورى: 49 – 50].
ويقال إن شاء الله لهم مَن الناطقُ الظلمة فالمنطق خلاف الخرس وهو خير زعمتم ؟! أم النورُ والظلمةُ جميعاً فقد استويا في النطق والإستواء تَشابهٌ كما علمتم ؟! أم الناطق النور ؟ فالمنطق خير وشرور، والشر إذاً فهو في نوركم، ويلكم ما أبينَ في هذا شناعة أموركم ! وأشد مجونكم ! وأعظم جنونكم ! وأظهر السفه به وبغيره فيكم ! وأغلب الدنآءة فيه عليكم.
وزعموا أنهما حساسان، فهما لا محالة في الحس مشتبهان، ومشبه الشر لا يكون إلا شراً مؤذياً أليماً، ومشبه النور لا يكون عندهم إلا نوراً كريماً، وفي مشابهة النور بالحس للظُّلمة نفي ألا يكون (خيراً، وفي مشابهة الشر للنور بالحس نفي أن لا يكون) شراً، فكلٌ منهما خيرٌ شر، وشرٌ خير، وهو من القول فأحول ما يكون من المحال، وأخبث ما قيل به في الإحالة من الأقوال.
ومن قولهم إن الأشياء لا تتغير عن جواهرها، وقد ترون أنها تتغير عن صورها، فصورة النور مؤنسة مُضيَّة، وصورة الظلمة موحشة ظُلَمِية، فإذا ما هما امتزجا عُوينَ مزاجهما بصورة في المزاج أخرى، ليست بما كان يُرى، لا مؤنساً مضياً، ولا موحشاً ظُلَمِياً، فمن أين كانت هذه الصورة الثالثة ؟ إلا أن الأمور حادثة، ولكن القوم يلعبون بنفوسهم، ويقولون بخلاف ما يجدون من محسوسهم، وليس ببدع ممن جَسَرَ على قول الزور والبهتان، أن يجحد بلسانه ما يدركه بشواهد العيان، فيزعم أن الرطب يبسٌ، وعُشر العدد خُمس، وإنما التبيان في الحقائق الموجودة، ما يدرك منها بشواهدها المشهودة.(1/186)


وزعموا أن الشيء لا يكون أبداً، إلا مثل جوهره مجتمعاً ومفردا، وشأن النور العلو والارتفاع، وشأن الظلمة السفول والاتضاع، وكذلك شأن كل ضدين، متى وجدا متضآدين، متى علا هذا، هوى هذا، فهو أبداً يهوي إذا ضده سما، ويسمو إذا ضده هوى، وفي فراق الشيء لشأنه، حقيقة فنائه وبطلانه، كالنار التي من شأنها التسخين، واللين الذي لا يكون إلا وله تليين، فمتى بطل شأنا هما، بطلت لابد عيناهما، لأنه لا حارٌ إلا مُسخِّن، ولا لَيِّنٌ أبداً إلا مُلَيِّن.
وقد زعموا أن النور قد زال عن داره من العُلى، وصار إلى هذه الأرض السفلى، وفي ذلك مِن تَغيُّره، ما قد قيل من بطلان عينه. وكذلك الظُّلمة في بطلانها، إذا صارت إلى خلاف شأنها، فصارت في منزلها سُفلاً، إلى ارتفاع ومعتلى، فهما في قولهم قد بطلا، وقد يوجدان بالعيان علوا وسفلا، وهذا نفسُ متناقضِ المحال، وعينُ متدافع الأحوال، إذ في أن يبطلا فُقدانهما، وفي أن يوجدا بطلانهما، فعدمهما وجود، وغيبتهما شهود. فأيُّ عجبٍ أعجب ؟! ومتلعَّب ألعب ؟! ممن رضي بهذا قولا، وكان بمثله معتلاً، وفي هذا من أمرهم، وما أوجدنا فيه من ذكرهم، كفاية للناظر المبصر، بل قد يكتفي به غير المفكر، والحمد لله حمداً دائماً مقيماً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما .(1/187)


فأما خرافات أحاديثهم، وتُرَّهات أعابيثهم، فهزل ليس فيه جد، ولا مما يجب له رد، ? فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ? [البقرة: 79]. وبأي متلعَّب قاتلهم الله يتلعبون، ألم يروا أسماءهم التي يسمون، وما منها لا غيره يعظمون . فمنها عندهم: أبو العظمة، وأم الحياة المتنسمة، وحبيب الأنوار، وحراس الخنادق والأسوار، والبشير والمنير، والانسان القديم، وما ذكروا من الأراكنة. التي عليهم بها من الله ألعن اللعنة، وما قالوا من عمود الشبح، التي بها وبقولهم فيها أقبح ما يستقبح، وأكذب أكاذيب الزور، وأعجب عجائب ما وصفوا من الظلمة والنور، فزعموا أن أسماءهم هذه التي افتروا، وفننوا فيها بأعباثهم وكثروا، هي رد الظلمة – زعموا – عن النور، أفلا ردت عن أنفسها ما هي فيه من الشرور!!
وزعموا أن هؤلاء لأجزاء النور مصطفُّون، وهم في أنفسهم بالظلمة مختلطون. فيا ويلهم ويلاً ويلاً، من أقاويلهم قيلاً قيلا، في أبي عظمتهم، وأم حياتهم، وحبيب أنوارهم، وبشيرهم ومنيرهم، وعمود شبحهم وإنسانهم، وما يعبثون فيه من أراكنهم، فعظموا منها غير معنى، وسموها كذباً بالأسماء الحسنى، وهم يزعمون عنها – ويلهم – أنها مخالطة في حال للأقذار، ملتبسة فيما زعموا بالأشرار، تُنكح في بعض الأحايين نكاحاً، وتؤكل في بعضها صراحاً، وتُقسَم تارة وتُحدَث، ثم تقيم في ذلك وتمكث، فيالعباد الله إن هذا لهو العبث العابث، والمقال الفاسد العايث، الذي لم يقل بمثله سوى أهله قط قائل، ولم يسأل فيه بمثل عجز مسائل ابن المقفع سائل، ولقد – ويله – أكثر في المسألة والمسألة لا تكثر وطغى، حتى هممنا أن لا نجيبه لو لا مخافة أن يكون على ذلك المَحْق مُتَّبَعاً، وذلك لِجهله، بما سقط إلينا من مسائله، وخلَّط في قوله، ولِكذبِه أيضاً فيما يَنْحَل وينتحل، وكثرةِ ما يختلف في كل مسألة وينتقل، وما أحسبه جَالس قط متكلما، ولا أَحسنَ لِمَسائِله تَفَهُّما.(1/188)


فليعلم من قرأ كتابنا هذا وفهم ما فيه لهم، جوابنا إن هو كان من غيرهم، عمى مذهبهم وصمَمَه، وإن كان ممن تلبس بضلالتهم فليحذر غِيَرَ الله ونِقَمَه، فلقد قذفوا قذفاً، مسخاً وخسفاً، وكادت السماوات أن يتفطرن وشوامخ الجبال أن تخر بدون ما قالوا، ولأصغر أضعافاً مما نالوا، لأن الذين قالوا قبلهم الأقوال، وجعلوا لله سبحانه الأمثال، أثبتوه سبحانه ولم ينفوا، وإن هؤلاء أنكروا ونفوا، فلا يغترَّنَّ منهم مُوخَّرٌ في الجزاء، بما يَرى من استدراجه بالاملاء، فإن الله يقول لا شريك له، وتعالى عن كذب الكاذبين قوله: ? ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ? [آل عمران: 178]. ويقول سبحانه: ? فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ? [الأنعام: 44-45]. ويقول سبحانه: ? ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء، وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذي ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ? [إبراهيم: 42-45].(1/189)


فإن قال قائل منهم يحذرني النار، ويخبرني عن كتابه الأخبار، ولست بهما بموقن، ولا لخبره عنهما بمؤمن. فليعلم أن أقل ما عليه فيما أُنذر، وفيما يعقل مَن يعقل فيما حُذِّر، خوف الممكن المطنون، إذا كان غير مستنكر أن يكون، وإن الناس لو كانوا لا يحذرون إلا ما يعلمه من حَذَروه، ولا ينذر المنذرون قوماً إلا ما عاينوه وأبصروه، لَقَلَّت النذر، وفني الحذر، وإنه لو حُذِّر جباراً بل إنسانا ذليلا لارتاع له ارتياعا، ولاستشعر من الخوف لتحذيره وهو هو أفزاعا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! فكيف بملك الملوك ؟! ومن له ملكُ كلِ مملوك ؟! ذلك الله العلي الجبار، الذي بإرادته كانت الظُّلَم والأنوار، والسلام على من اتبع الهدى، وآثر رضى الرب الأعلى، فرضي من الأشياء مرتضاه، واصطفى من الأمور مصطفاه، فأدى إليه سبحانه في نفسه حقه، وعلم أنه هو الذي فطره وأحسن خلقه، وأن له عليه فرضاً واجباً، أن يكون لما أحبَّ محبا، ومن كل ما كره من الأمور قَصِيّاً، ولمن وَالَى من خلقه ولياً، ولمن عادى سبحانه من أهل الأرض عدواً، فإنه لا يعادي سبحانه إلا مسيئاً أو سُوًّا، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد وأهله الطاهرين.
تم الرد على ابن المقفع، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.(1/190)

38 / 201
ع
En
A+
A-