وبعضها عندهم فبعض، فالماء منها هو الأرض، والأرض فهي الماء، والماء فهو الهواء، فإن ذلك يصير إلى أن كل موجود فمن موجود، والموجود فلا يصح أن يقال له كن ولا يعود، ! وكيف يكون الكائن ؟ أو يبين شيء من شيء وهو بائن ؟! كقولك: إن الماء ينفصل من اللحم واللحم ينفصل من الماء كيف والماء فأصلٌ موجود، وإن كان كل جسد ذي حد إذا خرج منه بقدره جسدٌ مثله محدود، فني عندها يقيناً، وبطل أن يكون كميناً، فمعروف أنه لا يكون الكل من الكل، ولا يخرج منه في الوزن مِثلٌ له بعد مِثلٌ، كيف وقد يُعلم أن الشيء إذا أخذ منه مثله، فقد فني وذهب كله، وإن كان ما أخذ منه، مقصراً في القدر عنه، نقص منه بقدر ذلك، لا يكون الأمر فيه أبداً إلا كذلك، ولا يستقيم أن يكون لهذا الذي أخذ منه مثله قوام أبداً بلا منتهى، ولو انتقص منه مثل بعضه لكان بذلك قد تناها، الشيء الذي يدوم عِظَمُه وينفى عنه تغيُّره، ولا يستقيم أن ينفصل منه أبداً غيره، ومن أجل أنه لا يبقى أبداً قدره، وهو يخرج منه أجساد مثله، وبقدرة في الوزن محدودة، مستوية في الوزن بقدرة موجودة، وهو أيضاً لا يُحد إذا حُدَّ بكثرتها، ولا يوصف عند الصفة بصفتها، وإن كان كل جسد من الأجساد إذا أُخِذَ من بعض زنته، لابد أن ينقص من كميته، كيف ما كان في حده، من كبره أو صغره، فمعلوم أنه لا يفصل منه أبداً جسد مثله، إلا انتقصه ما فُصِلَ منه كله، وأنه لا يجوز في ألباب الأصحاء، ولا فيما يحمد من قضاء النصحاء، أن يكون يوجد من شيء شيء ثم لا يُنقصه ما أخذ منه، وإذا انتقص فالنقص يخبر بالنهاية عنه.(1/181)
ويقال أيضاً لهم إن كانت الأجساد والأعراض مختلطة، وإنما يفارق بعضها بعضا عندكم فرقة، وهي كلها في قولكم فواحدة، فالإنس والجن بينهما عندكم خلاف، والأعراض والأعيان فقد تجمعهما الأوصاف، ولابد لهذا الخلق من رؤوس أوَّليَّة، مبتدعة من الله سبحانه بَدِيَّة، منها بَرَى الله كل بَرِيَّة، ترى من البرايا كلها بعيان، وثبت أن تركيبها شيء أو شيئان، ولا ينبغي لهذه الرؤوس أن يكون بعضها من بعض، بل تكون متضآدة تضآد النار والأرض.
ويقال أيضاً إن كانت صور الأشياء لم تزل ولا تزال، والصور فهي الألوان والهيئآت والأشكال، كان قول القائل- إنه لا يمكن أن يكون شيء لا من شي، ولا يفسد من الأشياء كلها شيء فيعود إلى التلاشي، - قولا من قائله مقبولا، وعُدَّ ما زُعِم فيه قولا.
وإن لم تكن صور الأشياء دائمة، ولا في كل حين موجودة قائمة، أعني بالصورِ صورة اللحم، وصورة الدم، وصورة العظم، وصورة الأشكال الطبيعية، والألوان كلها الظاهرة منها والخفية.
فلا محالة أنها لم تكن قبل حدوثها، وأنها قد تفنى بعد حدثها، وأن حدوثها استحالتها من ليس إلى أَيْس، وأن فناءها استحالتها من أَيْس إلى ليس، كبياض الثلج الذي يحدث عند كون الثلج معاً، ويبطل بياضه عند بطلانه فيفنيان جميعاً، وهل من فعالٍ في سكون أو زوال يجده واجد، أو يشهد به على فاعله شاهد، إلا وهو محدث ثم كان بعد أن لم يكن، بريء من معنى لم يزل، تعلم كل بهيمة مضيَّ ماضيه، وفراقها في المعنى لمنتظر آتيه، فلا يجهل أحد منه ماضياً، ولا يشبه ماضٍ منه آتياً، إلا أن يزعم متجاهل، أو يكابر عاقل، فيقول: إن كون الحركة والسكون في حال واحدة معاً، وإن الحركات والسكون لم تزل قط جميعاً، فيلزمه أن تكون أوقاتها كلها وقتاً، ونطقُ ما يعقل ناطقاً من الأشياء سكتاً، فيعود يومه من أوقاتها أمساً، ومجنوسها عنده لنفسه جنساً، وفرعها أصلا، وآخرها أولاً.(1/182)
وكفى بهذا من القول محالا، ومن وصف محالات القول مقالا، أن البهائم جميعاً في اختلافها، لتنظر ما لم يأتها بعد من أعلافها، فإذا وصل إليها، افترقت مواقعه لديها، فما تنتظره بعد إتيان، ولا تضطرب إليه بجوَلان، ومن قبل ذلك ما كانت تصهل إليه وتنهق، وتضطرب إليه دآئبة وتقلق، ولكن لم يعدُ القوم في جهلهم من ذلك لما جهلوا، وضلالتهم عن حقائق الأمور عما ضلوا، ما وصفهم الله به، وذكر من ضلالتهم في محكم كتابه، إذ يقول تعالى: ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ? [الفرقان:44]. فلم يَقِفهم على مواقف البهائم في الجهل ومناهيها، بل زَادهم في حكم الجهل عليها، فافهموا أدلة هذه الآية المعجبة المتحققة، وما أوجد الله سبحانه منها عيانا في هذه الفرقة، وأن وجودها فيهم، ودلالة الله بها عليهم، آية عظيمة عند من يعقلها في البيان، لا توجد إلا فيما ذكر سبحانه من الضُّلان، والحمد لله رب العالمين حمداً موفوراً، وعلى سيدنا محمد النبي وآله السلام كثيرا.
ثم جعل ابن المقفع النور الذي زعم أنه خيرٌ واحد أفانين، ولوَّنه في معناه أَلاوِين، وجعله بعد توحيده له كثيرا لا يحصى، وعدداً جماً لا يتناهى، فقال: إنه نورٌ وحكمة، وطيب وبهجة، وخير وبركة، وإحسان وراحة.
وكذا و كذا مما لا يتناهى. وقد تعلمون أن البركة والبهجة، والطيب والحسن والحكمة، أشياء في العدد كثيرة، ومعان لا يشك فيها متغايرة، كل واحد منها غير صاحبه، والسبب منها غير سببه، لا يشك في ذلك ولا يمتريه، إلا من لا يعقل شيئا ولا يدريه.
وكذلك قال في تكثير الظُّلْمة، وما نسب إليها من الشر وخلاف الحكمة، ثم جعل كثيرها واحداً، وزعم أنه لا يكون منها خير أبداً.(1/183)
أفليس يا هؤلاء الليل الأدهم، وسواده الذي هو من كل ظُلمة أظلم، موجوداً فيه ما ذكر الله فيه من السكون ؟! بأوجد معارف ما يُعرف من كل كون ؟! والسكون راحة، والراحة فسحة، والفسحة خير كثير، فالظلمة الآن عندهم خير. يقول الله تبارك وتعالى:? هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ? [يونس: 67]. وقال الله: ? أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه أفلا تبصرون ? [القصص:72].
وهل ينكر أن نور الشمس، يدرك ذلك منها بالحس، معشاة لبعض العيون، ومضآر في كثير من الفنون، وهو أفضل النور عندهم فضلاً، وأكثره في النور محصلاً ؟! أو ليس قليل النهار مقصراً في النور عن كثيره ؟! والتقصير شر فالشَّرُّ في بعض النهار بتقصيره ؟! فأي محال أوضح! أو مقالِ إحالة أقبح ؟ من هذا مقالاً! ومن محاله محالاً! ليس بالأمر من خفاء، ولا على عَورة أهله من غطاء. إلا أن عجمة القلوب، وما فيها من عَمَهِ الذنوب، تجول بأهلها كل مجال، وتهلك بمحالها ضعفة الرجال .
ومما قال من هَماهِم صدره، وزمازم هتره : إن الشيطان – زعم – قد بنى على كل صنف من أهل الأديان حائطاً حصيناً، وسوراً شديداً، حصرهم - زعم - فيه، ووكَّل بهم شيطاناً من شياطينه وجعله عليه، فإن كان الوكيل حَفِظَ السور فهذا أمانة، وإن لم يحفظه وكانت منه لموكله فيه خيانة، كان السور كما لم يكن، ولم يبق فيه أحد مِمَّن سُجن.
فاعجبوا أيها السامعون، لما تسمعون، من متناقض هذا القول، الذي لا يقول مثله إلا كل منقوص مرذول. فافهموا ما به وصف شيطانه، وكيف شدَّد أركانه، إذ جعل له أسواراً وحصونا، وجعل نوره عنده مسجونا، وذو السجن والحصون محتال، والحيلة فلا يعرفها عنده الجهال، لأن المعرفة عنده خيٌر سآرٌ، والجهالة شرٌ ضآرٌ .(1/184)
وقال: حصرهم. والحاصر فقويٌ والقوة فخير فقد عادت الظُّلمة عندهم خيراً، والمحصور فعاجز والعجز فشر فقد عاد النور عنده شراً.
ومما يقال لهم فيما زعموا من المزاج، وجاروا به من ذلك عن كل منهاج، سَلَكَه سالك، أو فتك فيه فاتك: من أين يا هؤلآء جاء تعادي الممتزجين من المتضآدة ؟! بعد أن صارا جميعاً في عقدة من المزاج واحدة، كَنَحو معاداة إنسان لإنسان، أو ضرب آخر سواه من موات أو حيوان، وكيف يكون من الناس – ما كانوا صلحاء - نسل غير صالح ؟! ومِن طالحهم - شيئاً كانوا أو أشياء - شيء ليس بطالح، ولا يُرى صلاحُ أبيهم أَصْلَحَهُم، ولا ما في أبيهم من الطلاح أطلحهم، ولايكون منهما وهما اثنان، ولما هو منهما أصلان، إلا أنثى واحدة أو ذكر، لا يوجد لهما سواه بشر، فما بال فرعهما من ولدهما، إذاً لا يكون كأحدهما ؟ إما أنثى مفرداً، أو ذكراً أبدا، فلو كان الأمر على ما يزعمون، أوفي شيء من طريق ما يتوهمون، كان ولدهما ذكراً أنثى، وأنثى ذكراً، إذ كان عندهم إنما يكون كل شيء من مثله، وكل فرعِ شيءٍ – زعموا كأصله، والوالدان لولدهما أصل، وكل شيء فإنما يكون منه ما هو له مثل، والمزاج نفسه فثمرة لا من مثلها، وعقدة المزاج فليست كأصلها، إذ أصلها اثنان وهي واحدة، وإذ هما لها أصل وهي لهما عقدة، فأيُّ مكابرة أوحش، أو محالِ قولٍ أفحش ؟! مما أدى إلى مثل هذا، وما كان من القول هكذا ؟!
فليعلموا – ويلهم – أن الله هو الذي صنع الأولاد للآباء، وأنه لا يصنع الأكفاءُ الأكفاءَ، ولكن الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد.(1/185)