فأما الخداع والمكر والكيد، لمن كان يمكر ويخدع ويكيد، فقد نقوله عنه، ونصفه سبحانه منه، لأنه خير الماكرين، وذو الكيد المتين، وخادعُ مَن خادعه من الكافرين، وكل ذلك منه فليس كفعال الخاسرين. والمكر والخدع والكيد، فإنما هو إخفاءُ ما يريد من ذلك المريد، وما عند الله مما يريد بأعدائه، فأخفى ما يُحتال في إخفائه .
وأما حربه فإنما هو حرب أوليائه عن أمره، هذا وجه ما ذكر سبحانه من حربه وكيده ومكره، الصحيح معناه، لاما شدَّ به ابن المقفع جهله وكفره وعماه.
وأما ما سمعه من الله سبحانه إذ يقول: ? وقد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر علهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ? [النحل: 26]. أََ فَتَرَى أن أحداً يعقل أو لا يعقل يتوهم أن هنالك سقفَ بناءٍ مسقوف، أو أنَّ ? فخر عليهم ?. إنما هو تمثيلُ ما يعرف من سقوط السقوف، ما يتوهم هذا أحد، ولا يضل فيه من ذي لب قصد، وهو أيضاً وتوجُّهه من تنزيل الله في كتابه، بهذه الوجوه كلها في فهمه وإعرابه، يدل على غير ما توهم فيما ذكر كله، إلا أن يأبى ذلك مكابرة لعقله.(1/171)


وقوله في الكيد استدرجهم سبحانه من حيث لا يعلمون، وقوله في المنافقين: ? يخادعون الله وهو خادعهم ? [النساء: 124]. وقوله سبحانه في الإستهزاء: ? الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ? [البقرة: 15]، فإنما يريد تَرْكَه لهم وتأخيرَه إياهم وهم عاصون، لاما ظنه ابن المقفع بالله كذبا، ولا استهزاء يكون من الله لعبا، كقول قوم موسى إذ قال لهم، صلى الله عليه وسلم: ? إن الله يأمركم أن تذبحوَا بقرة، قالوا أتتخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ? [البقرة: 67]. فهذا الاستهزاء إذا كان كذبا، وقول الخادع فإذا كان لعباً، فإلى المخلوق يضاف وينسب، لا أنه هو الذي يلهو ويلعب، فهذا وجه الاستهزاء منه والخداع والمكر، لاما يذهب إليه كلُ عَمِيٍّ ضيق العلم والصدر. وإذا قيل له سبحانه يرضى أو يحب، أو يأسف أو يسخط أو يغضب، فإنما ذلك إخبار عن أقدار الطاعة والعصيان، وجزاء الإساءة عنده والاحسان، لا يُتوهم مع ذلك ضمير مسكون، ولا حركة منه في رضى ولا سخط ولا سكون، وكيف يكون عندنا غير هذا وهو عندنا - ويله - ? الله لا إله إلا هو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11]. ? الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ? [الحشر: 24].
وأما قوله: فما باله جزع في غير كنهه من عمل يديه.
فهي أخوات قوله: انقلب وافتخر وانشأ التي لا تخرج إلا من بين جنبيه، ومتى زعم - ويله - أنا أخبرناه أنه جزع، أو سخط أو كره أو عاب شيئا مما صنع ؟!
وأما قوله: ابتدع الأشياء مما كان هاذيا فيه.
وهذا من قوله في الأشياء، فقول فاسد ليس يقرأ، إلا أنا أدَّيناه عنه لحفظه، وكرهنا تبديله إذ حكيناه عن لفظه.(1/172)


ثم قال عذبه الله، وأدام العذاب عليه: وتجاوز رضاه إلى سخطه، ومحآبَّه إلى مكارهه، والخيرَ لعباده إلى الشر لهم، والرحمةَ لهم إلى العذاب عليهم، ثم افتخر -زعم - وامتدح بأنه غلبهم وقهرهم وإنما هم لاشيء ومن لاشيء.
افهموا قوله: وإنما هم لاشيء. فكيف – ويله - يكون هم لا هم، وشيء لاشيء، متى يبلغ مثل هذا هذيان المجانين ؟ ولا جنون أقوال الهاذين .
فأما قوله: إذا غلبهم افتخر وامتدح.
فهما من أخوات انقلب، وهو فيهما يلعب كما كان يلعب .
ثم عمد إلى سر أسرار الفرقان، وأعجب عجيب سر القرآن، من الرآئيات والحواميم، وما ذكر فيه من (ق) و(آلم) و(طسم)، فَعَدَّ علمها جهلا، وظن مصونَ عجيبها مبتذلا، وأراد – ويله - عِلْمَ سرِ أنبائها، وما طواه الله إلا عن الأصفياء في إيحائها. وكلا لم يجعله لعلمها أهلا، ولم يجعل قلبه العَميَّ لها محلا، بل أخفاه الله وزمَّله، ولم يعطه إلا أهله، فإن كان علمه يُصيِّر المعلوم مجهولاً، فقد يوجد كثير مما هو عنده عِلمٌ مجهولاً، وليس مَن جَهِل لذي فضلٍ فضيلته، ولا مَن رأى أمراً فلم يدر علته، يسلب ذا فضلٍ فضله، ولا يزيل عن ذي عللٍ علله، وقد يرى – ويله - هو آلات الصناعات، وأشياء كثيرة من أنحاء الأمتعات، فلا يدري لِمَ ذلك وأهله به دارون، ولا يشعر بما فيه من المنافع وهم يشعرون.(1/173)


فأين – ويله – كان من إحضار هذا وَهمَه، أَوَلاَ – ويله – حكم بما رأى من هذا وأشباهه حكمَه، ولكنه يأبى إلا تحكيم العمى، والاعتداء والمكابرة في العلم للعلماء، وإلا فَلِم لم يفكر، إن كان ذا فطنة وينظر، إن كان من أهل النظر فيما يستدل به أهل الكتاب والعرب، من هذه الأحرف على ضمائر كل مُغيَّب، فكانت هي الدليل لهم على الكتاب، والسبب لعلمه دون جميع الأسباب. أفما رأى – ويله – سر عجائبها، فيما تنبئ عن محجوب غيبها، من سرائر قلوب المتكاتبين بها، ويدور من الأنباء في التعبد بسببها، اكتفاء منهم في أنباء الأمور، من كل مشاهدة بين المخبرين أو حضور، فهذا وأشباهه فليس لمثله فيه مدخلُ تعنيف، ولا يُشتغل منه ولا من مثله فيه بمنازعة في تحريف، مع أن لهذه الوجوه في التأويل، ما لو سقط عنا علمها في التنزيل، لكان علينا أن نعلم أن لها مخارج عند الحكيم، ووجوها صحاحاً في علم التعليم.
ولو كان جهلنا بها يزيل صحتها، أو يبطل عن الحكيم حكمتها، لما ثبتت للحكماء حكمة، ولا في علم العلماء مَعلَمة، إذ توجد العآمة لا تعلم علمها، ولا تعرف للحكماء حِكَمَها، ولو لم يثبت العلم لعالمه، ولا حكم الحكمة لحاكمه، إلا بأن يعلم غيره منه ما علم، أو يحكم في الأمور كما حكم، لما كان في الأرض من أهلها جاهل، ولما وجدت بين الناس في العلم فضائل! وما –ويله– في جهله لحكمة الكتاب، وما جعل الله فيه من عجائب الأسباب، مما يلحق بالله جهلاً، أو يزيل عن كتابه فضلاً، مالَه لعنه الله تأبى ؟! به عماياته إلا تبابًا ؟!، لقد كابر من فرَّق ما بين الجهلاء والعلماء، ما لا يكابره ذو العمى، يقيناً منها به وعلماً، ومرمىً منها إلى غير ما رمى.(1/174)


والتبيان في هذا بيننا وبينه، وما ينبغي أن يشتغل به منه، فإنما هو في تثبيت الصانع ورسوله، لا فيما أنكر وفنَّن فيه من هذيان قيلهِ، فإذا ثبتت الحجة فيهما، وأقمنا دليل الحق عليهما، علم بعد إقامة الدليل، أن الحكمة ثابتة موجودة في التنزيل، جُهل ذلك أو عُلم، أو تُوَهِّم فيه أولم يُتوهم. فدليل معرفة الله الذي لا يُكابر، وشاهد العلم بالله الذي لا يُناكر، ما أرى وأوضح مما تراه أعين الناظرين، وتحيط بالتحديد فيه أفكار المفكرين، من الأشياء كلها في تأثير مؤثَّرها، وتصوير صور مصوَّرها، وتناهي أقطار موجودها، وظاهر افتطار محدودها، وما ذكره منها ذاكر ووصفه واصف، أو تصرف بوصفه من الواصفين لها متصرف.
ففيه لمن نظر وأنصف، وعدل في النظر فلم يحف، دليل على حدوث الأشياء مبين، وشاهدٌ ثابتٌ - لا يُدفع - مكين، إذ الأشياء كلها محدودة، والآثار في قائمها موجودة، ومعلوم بأن التحديد إذا وجد لا يكون إلا من محدِّد غير محدود، ولا أثر إذا عُويِنَ إلا من مؤثرِّ موجود، ولا تصويرَ مصوَّرٍ إلا من مصوِّر، ولا فطرة مفطور إلا من مفتطِر، كما لايكون كتاب وجد إلا من كاتب، ولا تركيب إذا كان إلا من مركِّب، ولا فعلٌ ما كان إلا لفاعل، ولا مقالٌ قيل إلا من قائل، فالله تعالى مؤثرِّ كل مؤثَّر، والفاطر جل ثناؤه لكل مفتَطَر، لا ينكره إلا مناكر، ولايأبى الاقرار به إلا مكابر، والمناكر فغير منكر، والمكابر فغير مستنِكر .
فَلِمَن أنهج إلى معرفته السبيل، وأوضح بمنته الدليل، الشكرُ على إبانة التعريف، ووضوح دلالة التأليف، التي لا يضل عنها إلا متضالل، ولايجهل معلومها إلا متجاهل، ولا يبور على الله فيها إلا خاسر، ولا يجور عن قصدها إليه إلا جائر .(1/175)

35 / 201
ع
En
A+
A-