فإن سأل سائل، أو قال قائل، فما باله إذا كان الجود عندكم من علة صنعه وبِرْيَتِه، والجود فلم يزل عندكم من ذاته، لم يحدث الصنع قبل إحداثه ؟! فهذا ضَرْبٌ من غلط السؤال وأعياثه! إذ كان الصنع كيف ما كان حدثاً، وكان الله له في ذلك مُحدِثاً، فهذا جوابنا له فيما سَالَ، إذ كان في مسألته قد أحال. والحمد لله رب العالمين، وأول من أنعم من المنعمين.
وأما قوله: فصارت الغلبة للشيطان بأن تبعه الخلائق على ضلالته إلا أقلهم.
فيا ويله ما في هذا من غلبته، بل هَبْهم تبعوه على ضلالته، فإنما بأهوائهم، وأطاعوه لعدائهم، لاعن غلبة منه لهم، فوالله ما غلبهم، فكيف يغلب خالقه وخالقهم ؟!، ومتى غالب اللهُ الشيطانَ فغَلب أو غُلب ؟! يأبى ابن المقفع - ويله - إلا اللعب، لئن كان الشيطان غلب الله بكثرة أتباعه، لقد غلب الشرُ نورَه بكثرة أشياعه!. ويله إنما يتبع الشيطانَ مَن أطاع هواه، وعمي عن الله مثل عماه، وسبلُه إلى الله لو أرادها ذُللٌ، وطريقُ نجاته بالحق له مُسهَّل، ولم يعص من عصى غلبةً ولا قهرا، ولم تطع نفس على طاعتها جبراً، إنما خُلِقَ الثقلان، مُخَيَّرين بين الطاعة والعصيان، لتكون الطاعة بالاختيار إحسانا، والمعصية للانسان عصيانا.
وأما قوله عليه اللعنة: أدخلوا عليه الأسف والحسرة والغيظ.
فَكَذبَ عدو الله لا يقال لله تحسُّر ولا غيظ، ولكن يقال لهم آسفوا، إذا عصوا الله فأسرفوا، ولا يقال تحسر الله ولا اغتاظ، وليس سبحانه مما يغاظ، يأبى ابن المقفع إلا عجمة اللسان، ومظلمة كذب البهتان، متى وجد الله سبحانه عما يقول، زعم مما لا تقبله العقول، أظنه ذهبت به ذواهب استعجام الحيرة، فيما ذكر عن الله سبحانه من الغيظ والحسرة، إلى قول الله سبحانه: ? يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ? [يس: 30]، فهذه إنما هي حسرة على العباد لا عليه، وتحسُّر فيهم على الهدى لا فيه.(1/166)


وأما قوله سبحانه: ? فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ? [الحج: 15]. وهذا أيضاً فإنما كان لماهو لهم من أمر الله مغيظ. يقول سبحانه أما من امرؤ غاظه، فليس يذهبه اغتياظه، وأما ? آسفونا ?. فهو أفرطوا في عصياننا، فوجب عليهم بذلك تعجيل انتقامنا، لا على ما توهم من حرقة الأسف، التي لا تحل إلا بكل مستضعف، ولقد كان له في هذا بيان واضح لو تبيَّن، ويقينُ علمٍ صادق لو تيقَّن، لقول الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه، :? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11]. وأن الذي توهم لتمثيل هو التمثيل، فسبحان من لا تصل إليه الآلام، ولا يعرض له نوم ولا نسيان، ومن ليس كمثل ما خلق من الإنسان، ذلك الله رب الأرباب، وَوَلِيُّ مجازاة العدل في الثواب والعقاب.
وأما قوله: فجعل الله السبيل سبيلين.
فوا عجباً لمِحَالِ قولهِ في هذا التكثير والتفنين! وكيف - ويله - يكون سبيلان سبيلا ؟! ما أحسب كلامه بهذا ومثله إلا خبلا وتضليلا!! فسبيلٌ - زعم - للطاغوت وحزبه، وسبيلٌ تفرد الله به، وإنما يكون سبيلهم لهم سبيلا غيا، إذاكان كل أحد سواهم منه بَرِيَّا، وإنما يكون السبيل لله سبحانه سبيلاً، إذا كان إليه داعيا وعليه دليلا، فهذا - ويله - وجه السبيلين، لا ما قال به من مَحال الشيئين.(1/167)


وقال: هل تعلم يا هذا لِمَ خلق الخلق ؟! فنعم نعلم، إذ علَّم وفهَّم، ومن ما نزَّل من ذلك وبيَّن، أما الجن والإنس فَلِمَا قال تعالى من عبادته، إذ العبادة له واجبة على أهل النعمة في محمدته، وأما ماسوى الثقلين فلهما خلقه، وبه استحق عليهما من الشكر ما استحقه، فذلك قوله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه: ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ? [الذاريات: 56- 58]. ومن ذلك قوله سبحانه: ? وسخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً ? [الجاثية: 12- 13]. فسبحان الله مستحق الرضى، ممن أطاع أو عصى، بأحق حقائق الاستحقاق، وما يحق للخالق الرزاق .
فأما قوله: فما أراد بخلقه الخيرَ أم الشرَ ؟!
فالخير أراد بهم جميعاً سبحانه معجلاً، وثواب المحسن منهم أراد جل ثناؤه مؤجلاً، فأراد سبحانه الخير في كلهم إرادة تعجيل، أتمها فأكملها أفضل تكميل، لا كما يريد من لم تتم إرادته، ولا تحق على غيره عبادته، وأما إرادته في التأجيل، فإرادةٌ خلافها يستحيل، إذ لا يكون بُنية أهل الدين، إلا بُنية تمليك وتمكين، وأنه متى كان غير ذلك لم تكن البنية بمحكمة، ولم يُر فيها ما يرى من آثار الحكمة، وكانت مواتا لا تفعل، وشيئا من الأشياء لا يعقل، فليعقل –ويله- أسباب حِكَم الله المترافدة، وليعلم تعالِي الله عن بنية أعيان الأشياء المتضآدة، التي لا تقوم بحال في وَهْم الأصحاء، ولا توجد بفهم في جُهلاء ولا علماء.
وأما قوله لعنه الله: إن ربهم على كرسيه قاعد، وإنه تدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.(1/168)


فيَالَ عباد الله من أعطاه، قاتله الله ما أعظم فِراه، أنه جلس فقعد، أو تدلى أو صعد، من حيث ظن، أو توهم، وما يبالي ما قال علينا كذبا، وادعاه من القول فينا تلعباً، إن الذي قال من قعد وتدلى وانقلب، وجزع وافتخر وأنشأ و غلب، فأكثر فيه من هذا القول علينا كذباً وقرفا وخَلْفا، لَشيءٌ ما علمتُ أن مِلِّيا ولا ذِمِّيا يعقل ما قال منه قط حرفا، وبلى، ولعله وعسى، أن يكون ظن قوله: ? استوى ?، فلا لم يعن الله بها ما عنى، وما لله سبحانه من ذلك، لو عنى به ما ظن هنالك، من المدح المعظم، والتعظيم المكرَّم.
أما علم إنما يُراد بالاستواء، الاجلال لله والاعلاء بملكه لما فوق السموات العلى، وأنَّ استواءه على ذلك كاستوائه على الأرض السفلى، وأن استوى في هذا كلمةٌ من الكلام، جائز معناها بين الخوآص والعوآم، تقول العرب إذا ظَفِرتْ بأحد، وغَلبتْ على بلد: لقد صرتُ إليها، واستويت عليها، تريد غلب سلطاني فيها، فهذا وجه قوله جل ثناؤه: ?استوى ? [الأعراف: 54]. لاما يذهب إليه فيه من العمى.
وأما ما جهل من قول الله تبارك وتعالى: ? ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ? [الحاقة: 17]، فقد يمكن أن يكون ثمانية أصناف، أو ثمانية آلاف، أو ثمانية معانٍ، ليس مما يُدرك بعيان، وأن لا يكون كما ظنوا ملائكة، وأن أقل ما في ذلك إذلم يأتهم فيه عن الله فيه بيان أن تكون قلوبهم فيه ممترية شآكة، لأن ذلك قد يخرج في اللسان، ويتوجه في فهمِ أهله بإمكان، وإن في ذلك لعِلَماً عند أهله مخزوناً، وإن فيه لله لغيباً مكنوناً، يدل على عجائب خفيَّة، ويتجلى إذا كشف عنه تجلية مضية، وليس معنى: ? فوقهم ? ما يذهب إليه الجهلة من الرقاب، ولا ما يتوهمون فيه من تشبيه رب الأرباب. والثمانية فقد يمكن فيها، غير ما قال به الجهلة عليها.(1/169)


وأما قول الله لا شريك له:? وترى الملائكة حآفين من حول العرش ? [الزمر: 75]. فقد يحتمل حآفين، أن يكون مكبِّرين مُجلِّين. ويحتمل أن يكونوا بأمره عاملين؛ لأن الاحفاف قد يحتمل ذلك في لسان العرب أبْينَ الاحتمال، لأنهم يقولون إن قوم فلان لمحفون به في الاجلال.
فإن قال قائل: فما وجه قوله، فيما ذكر من إحفافهم به من حوله ؟ فقد يكونون حآفين وإن كانوا من تحته كما يقال: إنهم بفلان لحآفون، وإن كان من عِلا لِي منازله بحيث لا يبصرون، ذلك كقوله سبحانه فيما أرى، لاما توهم في حَمَل وأحَفَّ واستوى: ? وانشقت السماء فهي يؤمئذٍ واهية، والملك على أرجائها ? [الحآقة:16]. فإذا انشقت السماء للفناء والبِلاء، تحوَّزت الملائكة لِشَقِّها إلى الأرجاء، وهي النواحي، وصارت حينئذٍحآفة حول العرش الباقي، والعرش فإنما هو السقف الأعلى، والأسفلُ ففناؤه قبل فناء الأعلى، فليعقِل هذا مِن المعنى، مَن أراد حقيقة ما عنى، ولْيعلم أن سقف أعلى ما فيه الملائكة من السماوات، غير مسكون بشيء من البريات.
فإن قال قائل: أفيكون، مكان غير مسكون ؟! قيل: نعم سقف ما تناهى من بناء السماوات العلى، لأنه لا يكون سفل أبداً إلا بأعلى، فأما أن العرش هو السقف فموجود في اللسان، كثير ما يُتكلم به بين العرب والعجمان.
وقد يمكن أن يكون معنى: ? الذين يحملونه ?، إنما يراد به الذين يلونه، إذ ليس بينهم وبينه شَي، فتعالى الملك العلي.
وقد تقول العرب في المنزل تَنزِلُه، أوفي الأمر تَحِملُه: إنه ليحملنا إذا كان عليهم واسعاً، وبمرافقه لهم مُمِّتعا، وليس يريدون حمله لهم بيد ولا عنق، أفما في اختلاف هذا ما وقَّف عن تشبيه الخالق بالخلق ؟!!(1/170)

34 / 201
ع
En
A+
A-