وإن دعوى ابن المقفع هذه فيه، لمَا لم يدِّعه قط مدِّعٍ عليه، لا ممن أجابه فاهتدى، ولا ممن صد عنه واعتدى، ولكني أحسب أن ابن المقفع هَذى، وألقى الشيطان على لسانه ما تمنى، فجعل ظنه عليه يقينا، أو كابر من وجد قوله بَيِّنا ! كيف يا ويله، قاتله الله وقتله، يكون كما افتراه، أو على شيء مما ادعاه، والله يقول سبحانه: ? قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ? [سبأ: 46]. ويقول سبحانه: ? أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ? [الأعراف: 185]. ويقول سبحانه: ? قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ? [يونس: 101]. فهل دعا أحد إلى إخلاص الفكر دُعاه، أو حدى أحد من الناس على النظر حُداه، ما يبلغُ كذبُ ابن المقفع في الكلام، كذبَ أضغاث الأحلام، طلب - ويله - في الكتاب من التعنيف، وتكلَّف في عيبه من التكاليف، ما لم تُطِقه قبله عفاريت الشياطين، فكيف به وإنما هو مجنون من المجانين !! أما سمع قول رب العالمين: ? قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ? [الإسراء: 88]. وقوله سبحانه: ? أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ? [يونس: 38].
أما قوله: فلا نعلم دينا مذ كانت الدنيا - زعم - إلى هذا الزمان الذي حان فيه انقضاؤها، أخبث زبدة كلما مخض، وأسفه في ذلك التمخيض أهلا، والبتر أصلا، وأمرَّ ثمرا وأسوأ أثراً، على أمته، والأمم التي ظهر عليها، وأوحش سيرة، وأغفل عقلا، وأعبد للدنيا، وأتبع للشهوات من دينكم.
وقد قال: ويله في هذا من أصول ديننا وفروعه، ومُفَرَّق حكم دين الله ومجموعه، بما لا يخفى كذبه فيه، عمن حكم بأقل الحق عليه.(1/161)
وأيُّ دين أحسن نظاماً، وأعدل أحكاماً، وأقل تناقضاً، وأرضى رضىً، من دين قامت دعائمه، واعتدلت قوائمه، على الأمر فيه بالعدل والاحسان، ونهت نواهيه عن كل فحشاء وعدوان، فلم يترك لمحسن ثواباً، ولم يضَع عن مسيء فيه عقابا، بمقادير من قسط عادلة، وموازين من عدل غير مائلة، لولاه لفسدت الأرض خرابا، وعدمت الصالحات ذهاباً.(1/162)
[إسلام السلاطين]
ولكني أراه ظن ديننا، وتوهم أحكام ربنا، أحكام معاوية بن أبي سفيان، وما سن بعد معاوية ملوك بني مروان، مِن تناقض أحكامها، وجورها في أقسامها، وأولئك فأعداء ديننا، وحُكم أولئك فغير حكم ربنا، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور، ويحق بذلك أمْرٌ وَلِيهَ أحكم الحاكمين، وحكمٌ جاء من رب العالمين .
وأما قوله: رجل من أهل تهامة. فإنما هو ضرب من العجامة، وما في هذا ويله، ما أشد عتوَّه وكفره، تهامياً كان عليه السلام أوشامياً، أومغربياً كان من الناس أو مشرقياً، هل هو إلا بشر آدمي، بعثه إلى كل فصيح وأعجمي، كما قال سبحانه، أجزل الله كرامته ورضوانه: ? قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ? [فصلت: 6]. هل هو إلا رسول الله صلى الله عليه بعثه الله إلى الانسان، وإحسان من الله وهبه الله عباده لا كالاحسان، أرسله سبحانه بهداه مبتديا، إلى أولآء الخلق بأن يكون مهتديا، إلى الملأ من عشيرته، وفي ولد إبراهيم وذريته، وإلى أبناء قحطان من خيرته، وهم الذين كانوا في كفرهم أَوفَى أهل الكفر لمن عاهدوا عهداً، وأكرمهم لمن وآدَّ وُدَّا، وأحسنهم لمن تحرَّم بهم تَحرُّما، وأحفظهم لجوار من جاورهم تكرما، وأشدهم للكذب إنكاراً، وعن كل دناءةِ خلق استكباراً، وأشدهم لله إعظاماً، ولحرم بيته إكراماً، والذين يقول عنهم، فيما ذكر عنهم، في عبادة ما كانوا يعبدون معه من الأوثان، تقرباً بعبادتهم لذلك إلى الرحمن، ? ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ? [الزمر: 3]. أما سمعت قول الله فيهم، وفيما ذكر لعباده من تمنيهم، ? وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين، لكنا عباد الله المخلصين ? [الصافات: 169]. ويقول سبحانه عنهم خاصاً دون الخلق، في تمنيهم دون أهل الأرض لدين الحق، ? وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم(1/163)
? [فاطر: 42].
وأما قوله: عليه اللعنة في آيات المرسلين، وتمثيله لها بسحر الساحرين، فغير بدع بحمد الله منه وقَبْلَه، ما قال إخوانه من الكافرين فيها قوله، أما سمعتم قول فرعون وملائه، عندما رأوا من نور الحق وضيائه، ? إن هذان لساحران ? [طه: 63] فبينا هو يقول أيها الساحر إذ قال إنك لمسحور، وبينا قريش تقول لمحمد صلى الله عليه ما هذا إلا سحر إذ قالوا إنك لمجنون، ولعمري لو كان موسى ومحمد صلى الله عليهما ساحرين عندهم وفيهم، لكان ذلك بَيِّناً جلياً لديهم لا يخفى منه شيء عليهم، كما كان يتبين لهم سحر السحرة والكهان، يوقنونه منهم بحقيقة الايقان، ولا يَدَّعون سحرهم جنونا، ولا ساحرهم مسحورا، غلطا وعتهاً، وعماية وعمهاً .
هذا ليعلم أن قولهم فيه لم يكن إلا كذباً وافتراء، وأن السحر لم يكن عندهم ما يشك فيه ولا يمترى.
كيف ويله وويل أسلافه، ومن تبعه بعده من أخلافهم وأخلافه، يسمى سحراً أو جنونا ؟ ما يملأ بطوناً وعيوناَ! وترى آثاره اليوم إلى الدهر الأطول دائمة، ومواقعه في بطون الآكلين والشاربين من الظمأ والجوع باقية، ما هذه بطريقة السحر المعروف، ولا يعرف السحر بوصف من هذه الو صوف، إلا أن يكون في مُومِهِ وعماه، وشدة تباعده عن هداه، يبصر اليوم من السحر ما لم يكونوا يبصرون، أو يُظهر السحرة اليوم له منهم ما لم يكونوا يومئذ يُظهرون، والسحر يومئذٍ فيهم ظاهر منشور، وصاحبهم إذ ذاك عندهم مكرَّم محبور، ومن أظهر اليوم السحر، لم يكن له عند الأمة عقوبة إلا القتل، ما أوضح الأمور، وأبين الساحر والمسحور، وليس في هذا شغل، لأحد ممن يعقل، مع أنك لم تر قط أحداً يسحر، إلا وهو يعبث في سحره ويسخر، ولم تره وإن سحر إلا مسترذلاً، وسفلة دَنِيًّا نذلاً .(1/164)
وأما قوله: نافر الله الإنسان فقال :? فليدع ناديه، سندع الزبانية ? [العلق: 18]. ثم افتخر بغلبته - زعم - لقرية أو لأمة أهلكها من الأمم الخالية. فما في هذا ويله مِن نَافَرَ وافتخر، لا ولكنه أَوعَدَ وحذَّر، بما فيه لمن عقل مزدجر، وعبرة كافيه ومدَّ كر، وهذه من لفظاته الأولى، وشبيهتهن في الدناءة والعمى، فيا ويله ما أغلب عليه قول السفال والبهتان، وأجهله بما يدور بين أهله من هذا اللسان، الذي لا يصاب إلا به تأويل القرآن، ولا يتبين بغيره من الألسن ما يتبين به من البيان، فليُقبِل من أراده قبل تعلُّمِه، ولا يحكم على القرآن بوهمه، فإن ابن المقفع إنما استعار أحرفه، فأما معناها فجَهِلَه وحرَّفه، يسمع منا في ذكر الله لفظاً، فوعاه كما سمع حفظاً، ثم ثبَّته إلى نوره وضلالته كذباً، فأنشأ يمدح به غير الممدوح تلعباً، والمعاني منه فأعجمية، والأسماء التي سمى فعربية.
وأما قوله: انقلب وأنشأ. فكلمتان ليس لهما في الله معنى، لقبح مخرجهما، وضلال منهجهما، عن كلام أهل القَدْرِ والنُّهى، وإنما قَبِلهما من الناس عنالطبقة السفلى!
ومن قال له ياويله انقلب عليه خلقه ؟! وأنه أنشأ سبحانه يقاتله ويغالبه ؟! هذا ويله فما لم يقل به في الله قط، منذ كانت الدنيا مُقتصِد ولا مُفرِط.
وأما قوله: عمل يديه، ودعاء كلمته، ونفخة روحه. فكله منه على ما توهمه زور وبهتان، وأكثر قوله فيه هذر وهذيان، وليس فيما فَنَّنَ في هذا من قوله، لا في قصره ولا في طوله، أكثر من أن الله أحدث صنعاً، وأبدع لا شريك له بدعاً.
فإن قال قائل ولِمَ أوجد صنعه ؟! وما العلة التي لها أبدع بدعه ؟! فهي الاختيار فيما أنشأ، وإظهار حكمته فيما أبدى، جوداً منه وكرماً لا يَشَوبُه حسد، ولا يجب به إلا له فيه حمد، وكفى بهذه لصنعه علة، وفيما سأل عنه جواباً ومسألة.(1/165)