ومتى قيل له، قاتله الله وقتله، ما زعم وقال ؟! وهذى به وهذر إذ سال ؟! أنه أصمَّ خلقَه من حيث ظن، وأعماهم كما توهم، أو جبرهم على عصيانه، أو حال بين أحد وبين إيمانه، أو أنه هو أمرضهم، أو عذَّب بغير ذنب بعضهم، بل نقول هو أسمعهم بالدعاء نداه، ونوَّر أبصارهم بنور هداه. ومَن مرض منهم فمن الله يطلب شفاه، وإذا ابتلي ببلاء فهو سبحانه الذي يكشف بلاه، ألم يسمع – ويله، الله تعالى وقوله، عن أيوب نبيئه المبتلى، عليه صلوات الرب الأعلى: ? وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ? [ص: 41]، ? إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ? [الأنبياء: 83]. قال الله سبحانه: ? فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ? [الأنبياء: 84].
أو ما سمع قول إبراهيم، فيما نزل الله به من القرآن الحكيم، فيما ذكر عند الله لمرضه إذا مرض من الشفاء، وأضاف إلى نفسه من الغفلة والخطأ، إذ يقول صلى الله عليه: ? الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ? [الشعراء: 78 –82].
وأما قوله: وكل خلقه دمر تدميرا.
فلقد أنكر ويله من تدميرهم ما لم يجعله الله نكيراً .... عصيانهم لله مُستَحِق الطاعة ظلماً واعتدا، ومجانبتهم لما جعل الله لهم به النجاة والهدى، هو الذي به هلكوا ودُمِّروا، بعد أن بصَّرهم الله منجاتهم فلم يُبصروا، إلا أن يكون توهَّم أن الله هو الذي حملهم على العصيان وجبرهم، فكيف يا ويله وهو الله الذي مكنّهم فيه وخيَّرهم ؟! وما أجبر أحداً تعالى على إحسان، فكيف يجبره له على عصيان ؟! ولم يسخط ما قضى، ولا رضي إلا بما فيه الرضى، ولم يَغضَب له مِن فعال، ولم يتضآد بحال، ولم يتناول عدواً بقتال، ولم يتمثل في شيء بمثال، وإذا مرض خلقُه شفاهم، أو تعاموا عن الهدى أراهم.(1/156)
فيا عجباً ممن جَهِلَه! وأنكر حقه وعطَّله!! لو كان الله سبحانه صاحباً لوجب حقه!! فكيف والخلق خلقه ؟! وهو خالق الخلق ومبتدعه، والمحسن إليه في كل حال ومصطنعه، ومن لم يُدبر عنه بإحسانه حتى أدبر، ولم يُغيِّر ما به من نعمه حتى كفر، كيف وهو مَن عصاه استرضاه! ومن استكبر وهو القادر عليه أملاه! ثم كَرَّرَ عليه في دعواه الهدى نِدَاه، ثم مَن قَبِلَ حظه فيه جازاه، ومن أبى عطيته من الخيرات حَرَمه، وهو الذي قبَّح من كل ظالم ظُلمَه. فيا ويل من جهل إحسانه، وركب في الكفر عصيانه، ماذا جهل من إحسان كثير لا يحصى ؟! ومن عصى إذ إياه عصى، فمن أولى منه جل ثناؤه بالعبادة والتعظيم، فيما دعا إليه من الطاعة له والتسليم، وهو الله الهادي إلى سبيل النجاة، والمنعم بنعمه التي ليست بُمحصاة .
فإن قال قائل: ومن أين تدري أن هذه نعمه ؟ وأن محدثها إحسانه وكرمه ؟!
فليعلم أن كل ما يُرى منها نِعمٌ بَيِّنٌ آثار الإنعام فيها، بحكم تُصحح أثره العقول عليها، وأنه لابد في فطرة العقول، وما فيها لها من المعقول، من أن يكون لهذه النعم مُولٍ أولاها، هو الذي فطرها وأنشاها، وأنه لا ينبغي أن يكون موليها، كَهِيَ فيما أبان من أثر الصنعة عليها، وأنه لا يوجد شيء غيرها، إلا وُجدت فيه الصنعة وتأثيرها، حتى ينتهي ذلك إلى من لا يشبهه مصنوع، ومَنْ كل الأشياء فمنه بدع مبدوع، وأنه الله الأول القديم، الملك القدوس الحكيم.(1/157)
فإذا صح ذلك عند من يعقل بإشهاده، علم أن النجاة من الله لا تكون إلا بإرشاده، الذي نزل فيما أوحى من كتبه، ودل على النجاة فيه بسببه، فالحمد لله ولي النعمة في الأشياء، والمتولي لنجاة من نجا بهداه من الأولياء، الذي ليس له أكفاء فتساويه، ولا شركاء في الملك فتكافيه، المتبري من كل دنآة، المتعالي عن كل إسآة، رب الأنوار المتشابهة في أجزائها، وولي تدبير الظلم وإنشائها، العلي الأعلى، ذي الأمثال العلى، والأسماء الحسنى، شاهد كل نجوى، ومنتهى كل شكوى، والممهل المطيل، ومَن لا يُعدل من الأشياء كلها بعديل، فكل ذي خير محمود، أومنسوب إلى كرم أو وجود، فالله مبتدئ فَطرهِ محموده، والسابق الأول بما حُمِد من وجوده.
فأين قولنا ويله، مما ادعاه وتقوَّله ؟ سبحان الله ما أشد سفهه وجهله! لعنه الله وأضل عقله. ولو لا – أني سمعت الله لا شريك له يقول: ? أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوماً مسرفين ? [الزخرف: 5]، ويقول سبحانه: ? أولئِك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ? [الأعراف: 179]. ثم لم يترك مع ذلك تذكيرهم، وبعث مع ذلك فيهم نذيرهم، - لما رأيت لمن ذهب مذهبَه، وتَلعَّب في القول متلعَّبَه، منازعة ولا إجابة ولا تذكيرا، ولظننتهم إلا ما شاء الله له في العقول بقراً أو حميراً!!
أرأيتم حين يقول: ولا يغلب أحداً إلا بالخيل السلاح. إنه ليطمح في الخطأ –ويله- أيَّ طماح ! أترونه إنما يظن تغالب البهائم، أو غلبة الناس للإبل الجلة الصُّلادم، وارتباطهم للفيلة بالأمراس، وقرع سُوَّاسها لرؤوسها بالأجراس، إنما كان منهم بخيل أو سلاح، ويله إنه ليجمح عن الحق أيَّ جماح ! ولئِن كان يظن أن الناس أقوى من الملائكة، إن هذا في الظن لأَهلكُ الهلكة، وقد بينا في جواب ذلك لهم فيهم، ومِن غلبة الأولياء لله لعدوهم وظهورهم عليهم، بما فيه بَيان كاف، وعبرة واضحة لذي إنصاف .(1/158)
وأما قوله: يقاتل على الملك والدنيا. فكيف - ويله - يقاتل على الملك والدنيا، وطلب العز فيها والكبرياء، من كان لباسه فيها مع وجوده لملكها الشَّعَر والوبر والعبآء والصوف، وشعاره فيها والناس شباع آمنون الجوع والظمأ والخوف، وما الملك ممن يظل نهاره وليله خاشعاً وباكياً، ويسيح على قدميه في الأرض حافيا، يدعو من هلك من أهلها إلى النجاة، وينادي من مات عن الهدى إلى الحياة، ومن هو أعز ما يكون مفارقا لأحوال ملوك الدنيا وأغنيآئها، ومَن لا يُرى متكبراً عن مساكين العامة وفقرآئها، يقف عليها، ويُرى واقفاً فيها، ويأكل معها إذا أكلت، ويجيبها إذا سألت، ويعود مرضاها إذا مرضت، ويشهد موتاها إذا ماتت.
فأين هذا كله، وفرع هذا وأصله، من أحوال الملوك التي تتكبر عن آبائها، ولا تنظر بخير إلى أبنائها، ما أشبه بعض ابن المقفع ببعض، وما أحسب له في المكابرة نظيراً من أهل الأرض .
وأما قوله قول الزور والباطل: وأخرج - زعم - سلطان الجاهل، الذي يستر عليك الجهالة، ويأمرك أن لا تبحث ولا تطلب، ويأمرك بالايمان بما لا تعرف، والتصديق بما لا تعقل، فإنك - زعم – لو أتيت السوق بدراهمك تشتري بعض السلع، فأتاك الرجل من أصحاب السلع، ودعاك إلى ما عنده، وحلف لك أنه ليس في السوق شيء أفضل مما دعاك إليه لكرهت أن تصدقه، وخفت الغبن والخديعة، ورأيت ذلك ضعفاً، وعجزا منك، حتى تختار - زعم - على بصرك، وتستعين بمن رجوت عنده معونة وبصرا.(1/159)
[التفكير فريضة إسلامية]
فمن - ياويله - الذي يُخاطب ويَسأل ؟ ومن الذي يَخشى أن يُخدع ويجهل ؟ النور الذي لا يجهل - زعم - فيعود شراً، أم الظلمة التي لا تكون إلا خديعة ومكراً ؟! سبحان الله ما أشبه أمثاله بعقله! وما أوجد شبهه في الدناءة بفعله !! أمحمدٌ – ويله- صلوات الله عليه، كان يدعو إلى شيء مما كَذَبَ عليه فيه ؟! معاذ الله أن تكون تلك كانت قط من آدابه، ومما نُزِّل عليه في كتابه ! أهو - ويله - يحمل على خلاف ما يُعرف ؟! وإنما جاء صلى الله عليه وآله يدعو إلى المعارف، أو يأمر صلى الله عليه وآله بالكف عن الطلب والبحث، وهو الكاشف عن أسرار الغيوب لكل متبحِّث، أو هو يرضى دنآءة الخدع وقبائحها، أو يقارب الأسواء وفضائحها ؟! ولم يُقبِّح أحد من الخلق السيئات بأكثر مما قبَّح، ولم ينصح في الدلالة على الخيرات أشد مما نصح، ولم يناد بإظهار أمره أحد قط كما نادى، ولم يُدع إلى كشف الحق ما إليه دعا .
أما سمعه ويله، ما أكذب قيله! وهو يقول صلوات الله عليه ورضوانه: ? يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ? [يونس: 104]. ويقول الله تعالى: ? قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ? [آل عمران: 64]، ويقول سبحانه: ? قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون ? [يونس: 35].(1/160)