إن ابن المقفع ليكابر يقينَ علمِ نفسه، وإن به لطائفاً من لمم الشيطان ومسِّه، بل مَثَلُ ابن المقفع يقيناً، وما مثَّله الله به تبيناً، ما ذكر الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه، حيث يقول: ? أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ? [الأعراف :179]. يقول الله سبحانه: ? ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعلمون ? [الأعراف :180] . ثم قال سبحانه: ? وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ? [الأعراف: 181]. فلعمر الحق وأهله، ما وُفِّقَ ابن المقفع فيه لعدله، ألم يسمع ويله، قول الله لا شريك له: ? أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون، من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ? [الأعراف : 185- 186]. فيا ويل ابن المقفع لقد أدَّاه عَتَهُه وعماه في الأمور، إلى أجهل الجهل فيما وصف من الظلمة والنور، وليس عِلَّتُه فيما أحسب من ضلاله، ولا علة من تبعه عليه من جُهاله، إلا قلة علمهم بما شرع الله به دينه ونزل به كتابه من الحكمة، لاعن شبهة دخلت عليه ولا عليهم فيما وصفوا من النور والظلمة، فلما - عموا عن حكمالله في ذلك ورسله، وما حكم به فيه سبحانه من أحكام عدله، ورأوا فيه ما ظنوه تناقضاً، ورأوا كل أهل ادعائه فيه متباغضاً، ولم يلجأوا إلى الله في جهله باستسلام، ولا عصمهم فيه من صالحِ عملٍ بعروةٍ اعتصام، ولم يَلقَوا - فيما اشتبه منه - مَن جعلهم الله معدنه، فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره، الذين جعلهم الله الأمناء عليها، ومَنَّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها، ولم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه شفاء، ولم يرجوا منهم في مسألة لو كانت لهم عنه اكتفاء - ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة، ولم تُفِدْهم أقوالُ العلماء فيه بصيرة، حتى بلغني(1/146)
والله المستعان - من تهافت الضعفاء في هذا المذهب العمي، لِمَا رأوا من جهل علماء هذه العامة بما فيه لأهله من الدعاوي ما دعاني إلى وضع أقواله، والكشف عما كشف الله عنه من ضلاله، وإن كان عندنا قديماً لحمقه وضعفه، لمما لا أحسب بأحد حاجة إلى كشفه، حتى بلغني عن الحمقى منه انتشار، وتتابعت بانتشاره عليَّ أخبار، ورُفعت إلينا منه مسائل عن ابن المقفع، لم آمن أن يكون بمثلها اختدع في مذهبه كل مختدع، فرأيت من الحق علينا جوابها، وقطع ما وصل به من باطله أسبابها، فلينصف فيها، من نظر إليها، وليحكم - فيما يسمع منها نقائضها - حكمَ الحق، فإنه أعدل الحكم وأرضاه عند من يعقل من الخلق، وما ألَّف من مسائله هذه وجمع، فهو ما أوقعه من الضلال بحيث وقع، فذكر فيها النور والظلمة تلعباً، وتلعَّب بذكرهما فيهما كذباً.
فافهموا عنا جواب مسائله، فإن فيه إن شاء الله قطع حبائله، التي لا تصيد صوائدها، ولا تكيد له كوائدها، إلا حمقان الرجال، وموقان الأنذال، كان أول ما بدأ منها، وقال به متحكما عنها: إن سألناك يا هذا فما أنت قائل: أتقول كان الله وحده ولم يكن شيء غيره.
فاعرفوا يا هؤلاء فضول قوله، فإنَّلم يكن شيء غيره هو من فضوله، التي كثرَّ بها كتابه، وضلَّل بها أصحابه، ومسألته هذا مما كان جوابه فيه قديماً، مِن كل من أثبت لله من خلقه توحيداً وتعظيماً، وفي ذلك مِن كُتب ضعفة الموحدين وعلمائهم، ما فيه اكتفاء لمن نظر في آرائهم، ففي كتبهم فانظروا، ومن نور قولهم فيه فاستنيروا، ففيها لعمري منه ما كفى، وصفوة هدى لمن اصطفى، ومع ذلك فسنجيب مسألته، ونقطع إن شاء الله علته .(1/147)
نعم وكذلك يقول في الله فليعقل قولنا فيه مَن سمعه، ممن لم يتبع ابن المقفع وممن تبعه، فقد يعلم كل أحد أن الواحد لا يكون واحداً، عند من أثبت له نداً وضداً، وأنه متى كان معه غيره، ضده كان ذلك أو نظيره، زال أن يكون معنى الواحد المعلوم ثابتاً، ويعلم كل أحد أنه لا يكون ذو الأجزاء إلا أشتاتاً، ولا تكون أبداً الأشتات إلا كثيراً، ولا تكون أجزاءٌ إلا كان بعضها لبعض نظيرا.
أو ليس معلوماً معروفا أن من وراء كل غاية غاية، حتى ينتهي المنتهي الذي ليس من ورائه غاية ولا نهاية، وأنه إن كان مع غاية غاية، أو بعد نهاية عند أحد نهاية، فلم تَصِر بعدُ إلى غاية الغايات، ولم ينته عقله إلى نهاية النهايات، وأنه يصير بالعظمة عند النظر من عظيم إلى عظيم، حتى يَقِفَه النظر على غاية ليس وراءها مزيد في تعظيم.
وكذلك الأمر في كل معلوم أو مجهول، حتى ينتهي إلى الله الذي لا يُدرك إلا بالعقول، فيجده كل عقل سليم، وفكرُ قلب حكيم، واحداً لا اثنين، وشيئاً لا شيئين، عظيم ليس من ورائه عظيم، وعليم ليس فوقه عليم، ذلك الله الرحمن الرحيم، الواحد الأول القديم، القدوس الملك الحكيم، الذي لا تناويه الأعداء بمقاتلة، ولا تكافيه الأشياء بمماثلة، وهو الله الذي لم يلد ولم يولد، والصمد الذي ليس من ورائه مبتغى يُصمد، غاية طلب الخيرات، ونهاية النهايات، وإذا صحح حجتَنا في هذا صوابُنا، فهو لمن سأل عن وحدانية الله جوابنا.
فأما ما ذكر بعد هذا من القيل، فحشو مسربل بهذيان الفضول، ليس له مرجوع نفع، ولا يحتاج له إلى دفع.
أرأيتم حين يقول: انقلب عليه خلقه الذين - زعم - هم عمل يديه، ودعاء كلمته، ونفخة روحه، فعادوه، وسبوه وآسفوه، وأنشأ تعالى يقاتل بعضهم في الأرض، ويحترس من بعضهم في السماء بمقاذفة النجوم، ويبعث لمقاتلتهم ملائكته وجنوده.(1/148)
فيا ويل ابن المقفع ما أكذب قيله! وأضل عن سبيل الحق سبيله!! متى قيل له - ويله - ما قال ؟! أو زُعم له أن الأمر في الله كذا كان ؟! ومتى – ويله – قلنا له أن من قُوتل هو من قُذف بالقذف ؟! وأن الله في نفسه هو المحترس أفٍ لقوله ثم أف!! بل الله هو المانع لأعدائه، من أن يصلوا من العلو إلى مقر أوليائه، تعريفاً - بعدل حُكمه، وفيما تعلم الملائكة من علمه - بين الشياطين العصاة، وبين الملائكة المصطفاة، ورحمة منه سبحانه للآدميين، وإقصآءً عن علم السماء للشياطين، توكيداً به لحجته سبحانه وإحداثاً، وإحياء به لموتى الجهالة وانبعاثاً، وإكراماً منه بذلك لنبيه، وصيانة منه لوحيه.
فمن أين – يا ويله – أنكر من هذا ما كان مستباناً ؟! وما يراه الناس في كل حال عياناً ؟! أو يقول إن ما يرى من هذا لم يزل، وأنه ليس بحادث كان بعد أن لم يكن، فأين كانت مردة قريش عن الرسول به ؟! ودلالتها للعرب فيه على كذبه، وهو يزعم لها أن ما رمي بها عند بعثته، وأن الرمي بها عَلَمٌ من أعلام نبوءته، فلو كانت عند قريش - على ما قال - حالها، لكثرت على الرسول فيه أقوالها، ولما أرادوا مِن شاهدٍ أكبرَ بياناً من هذا في إكذابه، ولكن ابن المقفع يأبى في هذا وغيره إلا ما ألِفَ من ألغابه.(1/149)
لَلعْربُ إذ أكثرها أهل ضواحي وبادية، وقريش فإذ كانت منازلها على جبال عالية، أحدث بالنجوم عهدا، وأشد في الكفر تمرداً، من أن يكون أمرها على خلاف ما قال الرسول فيها، ثم لا يكذبونه فيما زعم من اختلاف حاليها، وإلا فالرسول كان في حكمته، وفيما كان له عليه السلام من فضيلة الصدق عند عشيرته، يتقول مثل هذا لعباً، أو يفتريه عندهم كذباً، بل ليت شعري ما أنكر ؟! ولِمَ - وَيله - نَفَرَ فاستكبر، من أن ترجم الشياطين على علم وحي الله ومنزله، كي لا تسبق به الشياطين إلى أوليائها قبل رسله، فينتشر علمه قبلها في الناس انتشاراً، فيزداد مثله يومئذٍ له إنكاراً، ويُحكم له فيه ظنونه، ويزيد فتنة به مفتونه، فأيما من هذا أنكر في رحمة الله الرحيم، وفيما خص الله به رسله من التكريم .
فإن قال فما باله إذا أراد إنزاله ؟! لم يطوه حتى لا يناله، شيطان رجيم مريد، ولا مطيع رشيد، إلا رسوله من بين خلقه وحده، فيكون هو الذي يبث رشده ؟!(1/150)