قلت: واعلم أنه كان أعظم احتفال الأئمة القدماء صلوات الله عليهم ببيان علم التوحيد والعدل، وفرائض الله التي ضلت فيها غواة الأمم، ولم ينجُ من الغرق إلا من بحبلهم اعتصم، ولدينهم التزم، فإنهم حجج الله على خلقه، والدعاة إلى دينه، وما زالوا يقارعون على دين الله الذي أتى به جدهم النبي المنذر، وتلاه في القيام به وتبليغه أبوهم الوصي الهادي، مؤسس قواعد الإسلام، الضارب عليه بذي الفقار هام المشركين، ومردة الطغام، حتى أقام عمود الإسلام بذلك العضب الحسام، صلى الله عليهما وعلى عترتهما الأطائب الأعلام، فهم من باب المدينة يغترفون، ولذلك الأثر يقتفون، كما قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام:
وعلمهم مسند عن قول جدهم .... عن جبريل عن الباري إذا قالوا
وهذا الإمام وأخوه الإمام محمد بن إبراهيم هما المجددان في رأس المائتين.
توفى الإمام القاسم وله سبع وسبعون سنة، ووالدهما إبراهيم بن إسماعيل يلقب طباطبا. قال بعض السادة المحققين: معناه سيد السادات.
قلت: وهو أيضاً لقب السيد الإمام العالم المحقق والمجيد الفلِّق أبي الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن عليهم السلام، الذي يستشهد أهل البيان بقوله:
لا تعجبوا من بِلَى غلالته .... قد زر أزْرَارَه على القمر(1/11)


الدليل الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبه نستعين، وصلواته على خير خلقه أجمعين، سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، وسلم تسليما.
قال الحسين بن القاسم بن إبراهيم: سألت أبي يوماً رحمة الله عليه، عن ما يقال للزنادقة والملحدين، فيما يسألون عنه من الدليل على الله رب العالمين، تقدست أسماؤه، وجل ثناؤه ؟!
فقال: سألت يا بُنيَّ عن أكرم مسائل السائلين، وعن ما بجهله هلك أكثر قدماء الأولين، فتخبط فيه منهم - عماية - من تخبط، وأفرط بجهله فيه منهم من أفرط، بغير ما حجة ولا برهان لمنكرهم في إنكاره، ولا عدمِ دليل مبين فيما هلك به من احتياره، إلا ما اتبعوا من مضل أهواء الأنفس، وضلوا به لتقليد أسلافهم من غواة الجن والإنس.
وحجج الله عليهم تبارك وتعالى في العلم به قائمة ظاهرة، وشواهد معرفته سبحانه لكل من خالفها بإنكار أو احتيار غالبة قاهرة. فالحمد لله ذي الغلبة والسلطان القاهر، ولمعرفته والعلم به الحجةُ والبرهانُ الزاهر.(1/12)


[دليل الحكمة والإتقان]
فدليل العلم بالله يا بني وأعصم أسبابه، وأقرب ما جَعَل للعلم به من مداخل أبوابه، ما أظهر في الأشياء سبحانه من آثار الحكمة المتقنة، التي لا تكون إلا من مؤثر متقن، وأبان في الأشياء من شواهد التدبير الحسنة المحكمة، التي لا تكون إلا من حكيم محسن، كما قال سبحانه: ?ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالْشَّهَادَةِ الْعَزِيْزُ الْرَّحِيْمُ، الْذَّي أَحْسَنَ كُلَّ شيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِيْنٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مهِيْنٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُوْحِهِ وَجَعَلَ لَكُم الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلاً مَّا تَشُكُرُونَ?[السجدة:32]. فكل ما ذكره سبحانه فجعائلٌ لابد لها من جاعل، وفعائلٌ لا تقوم أبداً إلا بفاعل، ولن يوجد جاعلها وفاعلها إلا الله سبحانه ذو الأسماء الحسنى، البريء من مشابهة الجعائل والفعائل في كل معنى.
ومن أسباب العلم به ودلائله، بعد الذي أبان من أثر التدبير في جعائله، أوثق وثائق الأسباب، مما فطر عليه بنية الألباب، من العلم البتّ، واليقين المثبت، الذي لا يعتري فيه - بحقيقةٍ - شكٌ ولا مرية، ولا تعترض فيما جعل من بصائره شبهةٌ مُعشية، من أن لكلِ ما أُحِسَّ أو عُقل، مما أثّر سبحانه وجعل، خلاقا متيقن معلوم، لا تدركه الحوآس ولا الوهوم. يُعقل ويُعرف بخلاف ما عُقِلت به الأشياء وعُرِفت، فتخالفه ويخالفها بغير ما به في نفسها اختلفت. فهذان أصلان مجملان، لمعرفة الله عز وجل ثابتان، وشاهدان عدلا ن، على العلم بالله بآتَّان.(1/13)


[وسائل المعرفة]
ولن يخلو العلم بالله، والوصول إلى المعرفة بالله، من أن يكون مدركا:
1ـ بمباشرة حس فيكون كمحسوس،
2ـ أو يُدرك بمباشرة نفس فيكون كبعض ما يُدرك من النفوس.
ولْيعلم من وصل إليه كتابنا هذا في ذكر درك النفس أن فلاسفة الروم، يزعمون: أن للنفس دركاً ليس بدرك الحوآس ولا درك الوهوم. ولا سيما عندهم إذا كانت النفس مُعرّآة من الأجسام، ومبرَّأة مما هي عليه من أوعية الأجرام .
3ـ أو يُدرك من وَهَم جائل، فيكون كمتوَهَّم بالمخايل .
4ـ أو يكون دركه سبحانه بظن، فيكون دركه كالمتظنَّن، الذي يصيب فيه الظن مرة ويخطي، ويسرع المتظنن بظنه فيه ويبطي.
5ـ أو يدرك من دليل مبين، فيكون مدلولا عليه ببتٍّ يقين.
6ـ أو يكون مدرَكاً سبحانه بحال واحدة دون أحوال، أو بما يمكن اجتماعه من كل ما وصفنا من الخلال.
7ـ أو مدرَكاً بجميع ما قلنا وحددنا، ووصفنا من الأمور كلها وعددنا.
8ـ أو مدرَكاً سبحانه بخلافه لكلِ محسوسِ الأشياء ومعقولها، في جميع ما يُدرك من فروع الأشياء وأصولها.
وهذا الباب من خلافه سبحانه لأجزاء الأشياء كلها، فيما يُدرك من فروع الأشياء جميعا وأصلها، فما لا يوجد أبداً إلا بين الأشياء وبينه، ولا يوصف بها أبداً غيره سبحانه. وهي الصفة التي لا يشاركه عز وجل فيها مشارك، ولا يملكها عليه تعالى مالك.
ولا يعم جميع الأشياء ما يقع من الاختلاف، فلن يوجد واقعاً إلا بين ذوات الأوصاف. وكل واحد منها وإن خالف غيره في صفة فقد يوافقه في صفة أخرى، كان مما يُعقل أو كان مما يُلمس أو يُرى. فإن اختلف محسوسان في لون أو طعم، اتفقا فيما لهما من حدود الجسم، وإن اختلف معقولان في فِعال أو همّة، اتفقا فيما يُعقل من أصولهما المتوهَّمة. كالملائكة والإنس والشياطين التي أصولها في النفسانية واحدة متفقة، وَهِممُهَا وأفعالها مختلفة مفترقة.(1/14)


فَهِِمَم الملائكة الاحسان والتسبيح، وهمم الشياطين العصيان والقبيح، وهمم أنفس الانس فمختلقة كاختلافها، في قصدها وإسرافها، فتحسن مرة وتبرّ، وتسيء تارة وتُشِرُّ .
وكل خلق من الملائكة والانس والشياطين فقد جعل الله له صفة متممة ذاتية، بها بَانَ بعضهم من بعض وكانت لكلِ مَن جعلها الله له خآصة صنفية، فهي لهم وبينهم ولهم اختلاف، وكلهم بها وبما جعل الله منها أصناف، بعضهم غير بعض، كما السماءُ غير الأرض.
وليس من وراء ما قلنا في الدرك لمعرفة الله والوصول إلى العلم بالله قول، ولا بعد الذي عددنا وحددنا في أصول المعارف بالله أصل معقول.
ولابد من النظر لمن أراد يقين المعرفة بالله، في تصحيح كل ما وصفنا صفة بعد صفة في معرفة الله، ليأتي المعرفة بالله من بابها، وليسلم بذلك من شكوك النفس وارتيابها، فإنه لن تزكو نفس ولن تطيب، ولن يهتدي امرؤ ولن يصيب، اعتلج في صدره بالله ريب مريب، ولا كان فيه لشك في الله نصيب.
فنستعين بالله على معرفته ويقينها، ونرغب إليه في يقين أوليائه ودينها، فان ذلك ما لا يثبت لمن ادعاه بدعوى غير ذات بيِّنة ولا أصل، فضلاً عن من كذَّب دعواه في ذلك من العامة سوءُ الفعل، فقال: أعرف الله بلسانه، وكذَّب ما ادعى من المعرفة له بكبيرِ عصيانه .
فإذا قيل له: بم عرفت ما تزعم، ومن أين علمت ما تقول إنك تعلم ؟!
قال: يا سبحان الله! ومَن يجهل الله ؟! وهل يُسأل أحد عن معرفة الله ؟!(1/15)

3 / 201
ع
En
A+
A-