فافهموا أيها السامعون عجيب أنبائه، وتدبروا من قوله معيب أهوائه، إذ زعم أن بعظمة نوره، وحكمة ما ذكر من زوره، كانت أولياؤه - زعم - عارفة، كأنه يثبت أنها كانت به جاهلة، ومع تثبيت هذا من القول في أموره، ثبت عمى الجهل والشر في نوره، ثم نسب عظمة إلى عظيم، وثبَّت حكمة لحكيم، فأضاف نوراً إلى منير، ولا يخلوذلك من أن يكون قليلا من كثير، فيكون كثير ذلك أفضل من قليله، فيكون مقصراً بالقليل عن الكثير وتفضيله، والتقصير نقص والنقص عنده شر من شروره، والشر - زعم - لا يكون أبداً في نوره. فاسمعوا لقول التناقض، وزور حجج التداحض، ففي واحدة مما عددنا، وأصغر ما من قوله أفسدنا، كفايةُ نورٍِ كافية، وأشفية من الضلالة شافية، لمن أنصف فاعتبر، واعتبر فادَّكر.
فإن زعم أن عظمته ونوره وحكمته هن هو، زال عنه بزواله عنهن إذ هواهن الارتفاع والعلو، إلا أن يزعموا أنه ليس في الأرض للنور عظمة، ولا في دار هذه الدنيا من حكمه حكمة، فيكون هذا تَرْكَ قولهم كله، والخروجَ من معهودِ فرعهم فيه وأصله.
ثم قال زعم: والذي اضطرت عظمته أعداءه، الجاهلين له، والعامين عنه، إلى تعظيمه - كما زعم - لا يجد الأعمى بداً مع قلة نصيبه من النهار أن يسميه نهاراً مضيئاً.(1/141)
وجهله بما بين العامين والعمين من الفرق في اللسان، أوقعه بحيث وقع من جهله بمخارج القرآن، والعامي فإنما هو ما نسب إلى أعوام الزمان، والعَمِيُّ فإنما هو أحد العميان، فكيف ويله مع جهله لهذا ومثله، يقدم على تعنيف وحي كتاب الله ومنزَلِه، الذي نزله على رسله، سبحان الله ما يبلغ العمى بأهله!! فثبَّت العظمة من نوره جزءاً، وجعلها من أعضائه عضواً، ونسب إليها بعدُ فعلا، زالت به عن عدو النور جهلاً، ورفعت به عن العمين - زعم - عماهم، والعمون فلا يكونون عنده إلا ظَلْمَاهُم، فلا نرى عظمتهم عندهم، وإن كابروا في ذلك جهدهم، إلا وقد أولت الظلمة خيراً كثيراً، وأحدثت للجهل والعمى تغييراً، وهو يزعم في قوله، أنه لا تغيُّرَ في شيء من أصوله، والأعمى فلم ينكر قط نهاراً، ولم يستصغر نهاره احتقاراً، ولم يعارضه به جهل، ولم يكن له عما فيه تَبَدُّل، وأعداء نوره به - زَعَمَ - جاهلة، وعن مذهبه فيه ضآلة مضلة، فكيف يصح تمثيله لهم بالأعمى ؟ إن هذا لصَمَمٌ من ابن المقفع و عمى!!
ثم قال: ومُسَبَّح ومُقدَّس النور. النور الذي - زعم - مَن جَهِلَه لم يعرف شيئاً غيره، ومن شك فيه - زعم - لم يستيقن بشيء بعده.
فاسمعوا في هذا القول من أعاجيبه! وما استحوذ عليه فيه من ألاعيبه!! قال ومُسبَّح فمِن تأويله مُسبِّحه، إذ ليس إلا هو وعدوه الذي لا يسبحه، فإن كان إنما يسبح نفسه، فإنما يسبح جنسٌ جنسَه، فما في ذلك له من المدح! وما يحق بهذا من مسبَّح وغير مسبَّح، وإن كان إنما سبحه جزء من أجزائه، فإنما سبح الجزء نفسه وغيره نظيره من أكفائه، وقد يحق له يا هؤلاء على الأكفاء، من تسبيحه ما يحق لها عليه بالسواء، وهو مسبِّح ومسبَّح، ومادِح وممتدَح، فليس له من مسبِّحه إلا ما عليه مثله من تسبيحه، ولا له من مادحه إلا ما عليه من مديحه، وكل هذا أعجب عجيب! وقولٌ متناقض وتكذيب!!(1/142)
قال: ومقَّدس وإنما مقَّدس مُفعَّل ومعناه فمُبَّرك، فمن يُبرِّكه وهو عنده يُبرِّك ولا يُبَرَّك، وليس معه إلا عدوه، الذي لا سوّ إلا سُوُّه، فنفسه تبرِّكه، فقد كان إذاً ولا بركة له. فسبحان الله ما أفحش خَطَاهُم! وأبينَ جهلهم وعماهم !!
فإن قال قائل منهم فبهذا فقد قلتم، وقد يدخل لهم عليكم ما أدخلتم!!
قلنا أما مُسبَّح فنقولها، وأما مقدس فأنت تقولها، ونحن لا من طريق ما كَفَرتَ، فقد نقولها في النور الذي ذكرت، لأن الله تبارك وتعالى بارك فيه، وفطره من البركة على ما فطره عليه، فينفع بقدره، في بعض أمره، فدل بذلك على بركته، وإحسان وليِّ فطرته، ولكنا نقول في الله: الملك القدوس كما قال، إذ كان كل شيء فبقدسه نال مِن قُدسِ البركة ما نال .
ومُسبَّح فقد نقولها، إذ نجدها له ونعقلها، مِن كل ما هو سواه مفطوراً، ظلمة كان ذلك أو نوراً، فأما هذيان التعبث، وقول التناقض والتنكث، فهو بحمد الله مالا نقول، مما لا يقارب قول أهل العقول، فأما قوله: الذي مَن جَهِلَه لم يعرف شيئاً غيره، فافهموا فيه هذيانه وهذره، فلعمر أبيه، ولعمر مُغوِيه، لقد يعرف - الطب والصناعات، وأنواع ما تفرق فيه الناس من البياعات - مَن لا يعرف نوره، ولا يتوهم أموره، يعرف ذلك يقيناً من نفسه ابن المقفع، ويرى منه بياناً بكل مرأى ومسمع، كم ترون من طبيب طلب منه ابنُ المقفع الدواء ؟! أو موصل من العوام أوصل إليه سراء أو ضراء ؟! توقن نفسه أن طبيبه يداويه، وأنه لا ينجع فيه بغير يقين تَداوَيه.
وكذلك من أوصل إلى ابن المقفع ضرآءه فقد يعلم أنها غير سرآئه، أو أوصل إليه سرآءه فقد يوقن بتَّاً أنها غير ضرآئه، وهذا من تكذيبه فيما قال فَأَتُم موجود، كثير بين الناس في كل ساعة معهود، لا يشك في يقينه أهل الطب والصنائع، ولا العآمة فيما تدبر من المضآر بينها والمنافع، وكلهم لا يوقن بشيء مما زعم في نوره، بل يزعم أن الجهل في كل ما هو عليه من أموره .(1/143)
ثم ابن المقفع فقد يعلم بتَّاً يقيناً، أن الناس لا يُثبتون لشيطانه فعلاً ولا عيناً، فأي أمرٍ أعمَهُ عَمَهاً ؟! أو ضلالة أقل شبها ؟! من ضلالةٍ دخلت بأهلها، في مثل هذا السبيل من جهلها ! فنعوذ بالله من خزي الأضاليل، ونعتصم به من لهو الأباطيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه .
وأما ما بعد هذا من حشو كتابه، فإنا قصرنا - لضعفه - عن جوابه. ثم قال وتَلَعَّب في بعض كلامه، وجوَّز ما حكم به لنفسه من أحكامه: فقد يبصر المبصرون - زعم - أن من الأمور محموداً، وأن منها مذموما. فقال منها ولم يقل كلها، وسقط عنه بعضها وفضلها، وإذا كان لأيها كان بعض وكل، كان لكلها يقيناً على بعضها فضل، وإذا ثبت بين النور التفاضل، ثبت لبعضه على بعض فضائل، وإذا كان النور فاضلاً ومفضولا، فقد عاد النور بعد أصل أصولا، إذ الفاضل والمفضول اثنان، والفضل والنقص منهما شيئان، والفاضل فخير حالا، والمفضول أسفل سفالا، فكل جزأين من أجزائه، فهما خير من جزو، وكل عضو من أعضائه، فهو في الشر كعضو، وهما إذا اجتمعا، خير منهما إذا انقطعا، فمرة فيهما خير عند الاجتماع، ومرة فغيرهما خير منهما عند الانقطاع.
وكذلك أيضاً فقد يدخل عليهم في الظلمة وتفاضلها، ما يصيِّرهم إلى أن شر البعض منهما أقل من شر كلها، إذ شر كلها أكثر من شر بعضها، وإذ الشر من أقلها ليس هو أكثر من شر كلها، فالنور في نفسه واسمه شر ضرَّار، ونافع شرَّار، وذلك أنه يقل والقلة عنده شر فيعود نوره ضرا، و يقصر عن قدر مبلغ كماله والتقصير عنده ضر فيعود ضرا، والظُلمة فخير عندهم وشر، ونفع وضر، إذ قليلها مقصر في الشر، عن مبلغ كثيرها في مواقعه من الضر، وبعضها كذلك مع كلها، فرعها فيه ليس كأصلها.(1/144)
فأي عدوان أعدى ؟! أو طريقة أقل هدى ؟! مما تسمع من أمورهم أيها السامع، فلتنفعك في بيان قبائحه المنافع، وأياًّ ما - ويله - رأى من الأشياء، من كل ظُلمة أو ضياء، يحمد أو يذم في الناس دائباً، وليس في الحمد والذم عندهم متقلباً، ألم ير أن الظُلمة ربما نفعت فحُمِدَت، وذلك إذ استترت الأبرار بها عن ظُلْمِ الظالمين فَسَلِمَت، وطلبت فيها وبها، البردفأدركته في طلبها، فهذا منها نفع ظاهر في دنيا ودين، يراه بَيّناً من أمرها كل ذي عين وقلب رصين، ثم تعود منافعها مضآراً، إذا أعطت هذا منها أشراراً، وكذلك أحوال النور، في جميع ما يُرى من الأمور، ربما نفع فيها، ثم عاد بالضر عليها، وقد ذكرنا من ذلك في صدر كتابنا طرفا، فيه لمن أنصف في النظر ما كفى.
وقال في كتابه زعم لبعض من دعاه: إن الذي دعاه إليه رجاؤه فيه للهدى. فمن ياوله رجا، الظلمة التي لا تُرجا، ولا يكون منها أبداً إلا الأذى، ولا يفارقها أبداً عنده العمى ؟ أم النور الذي لا يخشى ولا يعمى ؟! ولا يكون منه أبداً عنده إلا الرضى ؟! بل ليت - ويله - شعري، فلا يشك- زعم - ولا يمتري، مَن الذي يدعوه إلى الإحسان من الإسآء ؟! ومَن الذي ينادي به إلى الصواب عن الخطأ ؟! أهو النور الذي لا يُسِي ؟! والمصيب الذي لا يخطي ؟! فلا حاجة له إلى دعائه وندائه، وهو لا يسيء أبدا فيكون كأعدائه، أم المسيء الذي لا يحسن ؟! والمخطئ الذي يشتم ويلعن ؟! كان يا ويله إليه دعاؤه، وبه كان ندآؤه، فأنى يجيبه وليس بمجيب ؟! وأنى يصيب من ليس أبداً بمصيب ؟!(1/145)