ووجدت هذا القول داعيا إلى التجاهل، فلما كان ذلك كذلك، صح أن الله حكيم، والحكيم لا يهمل خلقه، وإذا لم يهمل خلقه، لم يكن بدٌ من أمر ونهي، ولم يكن بدُ من مؤتمِر، وغير مؤتمِر، وكان من حكم العقل أن يفرق بين الولي، والعدو، ووجدنا أوليآءه وأعدآءه مستوية الأحوال في الدنيا، لأنه كما أن في الأعداء من هو موسر صحيح، ففيهم من هو معسر مريض، وكذلك الأولياء، فلما كانت في الدنيا أحوالهم مستوية، ولم يكن بدٌّ من التفرقة بينهما، صح أن دارا أخرى فيها يفرق بينهم، وفيها ينشرون، إذ قد وجدت هذه الحال قد اشتملت الكل، الولي والعدو. وذلك قوله عز وجل:? أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ? [ص:28].
وأما قولك: أخبرني عن كيفيتها ؟ فإن الله عز وجل جعل الروح لجسد الإنسان حياة له، كالأرض إذا اهتزت بالماء، وتحركت بالنبات، كذلك الروح إذا صار في الإنسان، صار حيا متحركا، إذا امتزج أحدهما بصاحبه.
قال الملحد: وكيف يمتزج الروح بالبدن وقد صار ترابا ؟
قال القاسم عليه السلام: وكيف يمتزج الماء بالأرض الهامدة ؟ إذا صارت قاحلة يابسة.
قال الملحد: هو أن يمطر عليها، أو يجري فيها فيتصل أجزاء الأرض بأجزاء الماء، بالمشاكلة التي بينهما، فعندها تهتز وتتحرك.
قال القاسم عليه السلام: وكذلك الروح، يرسل إلى ذلك التراب، فيمآسه ويمازجه، فحينئذ يحيى الإنسان ويتحرك. أَوَلا ترى إلى بدء خلق الإنسان، كيف كان ؟! أو ليس تعلم أنه كان ترابا، فلما جمع الله بينه وبين روحه صار إنسانا، فأصل خلق الإنسان يدلك على آخره، أولا تسمع قوله سبحانه: ? قل يحييها الذين أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذين جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ? [يس: 79 –80].
قال الملحد: إنه ليس بين الروح والتراب مشاكلة، فيما يُعرف!.
قال القاسم عليه السلام: فهل تعلم بين النار والشجر الأخضر مشاكلة ؟(1/131)


قال الملحد: نعم. وهي أنها مجموعة من الطبائع الأربع إحداهن النار.
قال القاسم عليه السلام: الله أكبر هل تعلم بين النار وبين ثلاثتها مشاكلة ؟
قال الملحد: لا.
قال القاسم عليه السلام: فكيف اجتمعن ؟ إنه لما جاز أن تجتمع النار مع الماء، والأرض والأهوية، بلا مشاكلة بينهن جاز للروح مثل ذلك.
فقال الملحد عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق، وتَعِسَت أمة ضلت عن مثلك. وأسلم وحَسُنَ إسلامه، وكان يختلف إلى الإمام أمير المؤمنين القاسم عليه السلام، ويتعلم منه شرائع الإسلام.
تمت المناظرة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(1/132)


الرد على الزنديق ابن المقفع اللعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق كل معبود، المستوجب للحمد في كل موجود، الذي لا يقصر عنه باِلحمد من رشيدِ خلقه حامد، الصمد الذي ليس من ورائه غاية يصمدها صامد.
دليل من استدل بالحقائق، فيما فطر سبحانه من مختلف الخلائق، التي يوجد من اختلافها، وما خالف بينه من أصنافها، ما يوجد من اختلاف الظُّلم والأنوار، وفرقةِ ما بين الليل والنهار، بل أكثر في الفرقة بيانا، وأوضح في التباين فرقانا، لتفاوت ما فيها من اختلاف الألوان والطعوم، ولضروب ما فيها من كل محسوس ومعلوم، دلالة منه سبحانه بمتفاوتها، ومختلف ما بين حالاتها، على الأول الأحد، السابق لكل عدد، الذي لا يكون ثانٍ إلا من بعده، ولا يثبت الثاني إلا من بعد عده، البعيد من مساواة الأنداد، المتعالي عن مناواة الأضداد.
نحمده على ما هدانا إليه، ودل برحمته من توحيده عليه، ونسأله أن يصلي على ملائكته المصطفين، وعلى جميع رسله والنبيين، وأن يخص محمداً في ذلك من صلواته، بأفضل ما خص به أهل كراماته، ونستعينه لا شريك له على شكر نعمته، فيما وهب لنا من أبوة محمد عليه السلام وولادته، والحمد لله رب العالمين، ونعوذ به من عماية العمين.(1/133)


[الرد على ماني]
ثم إن فرقة من الكفرة قادها عصيانها، ونعق بقادتها في الكفر والعمى شيطانها، إمهامها المقدم، وسيدها المعظم، (ماني) الكافر بأنعم الله اللعين، الذي لم يبلغ كفره قط بالله الشياطين، ابتدع من القول زوراً لم يسبقه إليه سابق من الأولين، ولم يقل به قبله قط أحد من قدماء الخالين، مع افتراق مللهم، ومختلف سبلهم، فزعم أن الأشياء كلها شيئان، وقد يوجد خلاف زعمه بالعيان، فلا يوجد بين ما ذكر من النور والظلمة فُرقة، إلا وجدت الأشياء كلها بمثله لهما مفارقة، إلا أن الفرقة بين الأشياء أوجد، ومن الأشياء للنور والظلمة أوكد، مكابرة لعقول أطفال الأنام، وتجاهلاً بما تجهله بهيمة الأنعام.
ثم قال تحكماً، وافترى زعماً، أن الأشياء كلها من النور والظلمة مزاج، وأنه لم يكن بينهما فيما خلا من دهرهما امتزاج، سفهاً من القول وتعبثا، ومجانةً في السفه وخبثاً، فثبت بينهما شبه الاستواء، وحَكَمَ عليها حُكمَ السواء، في حالين يجمعانهما عنده معاً، وفعالين يتساويان فيهما جميعاً، فقال في أُولاهما لم يمتزجا، ثم قال في أُخراهما امتزجا، فجمعهما - عنده في الامتزاج وخلافه - الحالان، واشتراكهما فيما كان من إسآءة وإحسان، وليس في أنهما هما الأصلان، دليل واضح به يثبتان، أكثر من تَحكُّم العماة في الدعوى، والاعتساف منهم فيهما للعشوى، وما ذا يرون قولهم، لو عارضهم مبطل في الدعوى كَهُم.
فقال: بل النور والظلمة مزاجان، ومن ورائهما فلهما أصلان، هل يوجد من ذلك لهم، إلا ما يوجد لمن خالفهم ؟!(1/134)


فإن قالوا: الدليل على ذلك نفع النور، فربما ضرنا النور في أكثر حوادث الأمور، ولما يوجد من نفع قليل غيره، أنفع مما يوجد من أكثر كثيره، لَتمرةٌ أنفعُ في الغذاء لأكلها، من الأنوار في الغذاء كلها، ولئن كانت الدلالة من الدآل على المنكر ضراً، يعود عندهم شراً، إن النور لأدل على طلبات الأشرار، وأكشف لهم عن خفيات ما يبغون من الأسرار، التي عنها تجلى نورهم، وبه كثرت في الضر شرورهم.
وإن كان دليل عماة الظُّلمة، على ما بينوه أصلاً في الظلمة، ضر الظلمة في بعض أمورها، لربما منعت كثيراً من الشرور بستورها، فلم يجد لمنعها بسواتر ظلامها، الأثمة سبيلاً إلى تناول آثامها، ولسنا نجد عياناً نورهم من المضآر معرَّى، ولا ظلامَهم في جميع الأحوال مضراً، إلا أن يكون نورهم عندهم غير النور المعقول، فيصيروا بعد إثبات أصلين إلى إثبات أصول، ويحكموا على غائب لا يُرى، بحكمٍ لا يُتيقن ولا يُمترى، يتبين به عند أنفسهم قَصرةُ عماهم، ويصح لهم بَلْهَ غيرهم فيه خَطَاهم.
ثم يقال لهم أيضاً: حدثونا عن نور الشمس، وما يباشر أبصار المبصرين منه عند شروقه باللمس، أليس نافعاًفي نفسه، وعند مباشرة لمسه ؟!
فإن قالوا: بلى، وكلما تلألأ؛ لأنه يتلألأ فيشرق وينير، وكذا الأمر به كل نور إما قليل وإما كثير.
قيل: فما باله يُعشي أبصار الناظرين ويؤذيها ؟! وما بال بعض الحيوان لا تبصر مع ضوء الشمس وتلاليها ؟!
فإن قالوا: لعلة أن النور إذا أشرق على ناظر الانسان، وغيره مما يبصرمع ضوء الشمس من الحيوان، رد مع شروقه ما في النواظر، من الظلمة إلى الناظر، فلم ير فيه، ولم يطق النظر إليه.
قيل: فالظلمة في قولهم تستر، فكيف مع مكانها في الناظر تبصر، وقد تُرى الأبصار، إذا أشرقت الأنوار، تبصر حينئذٍ الأشياء، وترى الظلمة والضياء، فلو كانت الظلمة لها سُترة، لما أبصرت ما ترونها له مبصرة.(1/135)

27 / 201
ع
En
A+
A-