وشيء آخر: وهو أنه لو كان الإمتحان قبيحا، إذا علم أنه يُعصى، لكان لا شيء أقبح من إعطاء العقل، لأنه إنما يُعصى عند وجوده، ويُستحق الذم والمدح به، فلما كان إعطاء العقل عند الأمم كلها موحدها وملحدها حسنا، دل ذلك على أن الإمتحان والخلق والأمر بالحسن كله حسن، علم أنه يعصي أو يطيع.
قال الملحد: فَلِمَ مزج الخير بالشر ولِمَ صار واحد غنيا، وواحد فقيرا، والآخر قبيحا، والآخر حسنا ؟
قال القاسم عليه السلام: إن هذه الدار دار امتحان، ودار ابتلاء، وحقيقة الإمتحان فهو: أن يخلق فيه، أو يأمره بشيء يثقل على طباعه ؛ فينظر هل يطيع، أم لا يطيع ؟
ولو خلق الله ما هو خفيف على طباعه، ثم أمره بالخفيف لكان ذلك لذة له، وليس بامتحان. فلما كانت هذه الدار دار امتحان، كان الواجب في صواب التدبير، أن يمزج الخير بالشر، والنفع بالضر، والمكروه بالمحبوب، والحسنة بالسيئة، والكريه المنظر بالحسن المنظر، إذ كانت الدار دار امتحان ؛ لأنه لو كان كله محبوبا كان دار الثواب، ولو كان كله مكروها، كان دار العقاب، ودار الثواب والعقاب هذه صفتها.
واعلم أنه لو لم تُعرف علل ذلك لكان جائزا، وذلك أنه في بدِي الأمر، إذا أقمت الدلالة على أنه حكيم في نفسه وفعله، ثم دللت على أن الكل من أفعاله حكمة، استغنيت عن معرفة علله.
ومثال ذلك من الشاهد: أنا لو هجمنا على آلات من آلات الصانع، فرأينا اعوجاج المعوجات، واستواء المستويات، وصغر بعضها، وكبر بعضها، وغلظ بعضها، ورقة بعضها، فحكمنا أن صانعها غير حكيم، لكنا جاهلين بالحكمة، نضع الحكمة في غير موضعها. بل حينئذ الواجب علينا أن نسلم للحكماء حكمتهم، ونعرف أنهم لا يفعلون شيئا من ذلك إلا لضرب من الحكمة يعرفونه، ونعلم بأن المعوج والمستوي، وكل زوج منها يصلح لعمل لا يصلح له الآخر، فحينئذ وضعنا الحكمة في موضعها. فاعرف ذلك وتبيَّنه، تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.(1/126)


فلما كانت أفعال الله كلها إحسانا، أو داعية إلى الإحسان، كان تبارك وتعالى بفعلها كلها حكيما، إذ كل ذلك حسن في العقل.
فإن قلت: لِمَ فعل الحسن في العقل ؟
قيل لك: يفعل الحسن لحسنه، ولو لم يفعل الحسن في العقل لحسنه، لكان لا يترك القبيح لقبحه في العقل، وكفى بهذا القول قبحا.(1/127)


[إرسال الرسل وحكمة التشريع]
قال الملحد: لقد أبلغتَ وقد بَقِيتْ لي مسائل.
قال القاسم عليه السلام: سلْ.
قال الملحد: ما الدليل على أن الصانع له رسول ؟
قال القاسم عليه السلام: الدليل على ذلك أن الصانع حكيم، محسن إلى خلقه، وفي العقل أن شكر المنعم واجب، فلما كان هذا في عقولنا واجبا، وكان الله حكيما منعما على خلقه ؛ كان من كمال النعمة أن أرسل إليهم الرسل، مع دلائل اضطرت العقول إليها، ليبين لهم كيفية شكره، لأن كيفية شكره ليس مما يعلم بالعقل، ولا بالنفس، ولا بالحس، ولا بالظن، وإن كان في العقل جوازه. فحينئذ أقام لهم معهم دلائل ومعجزات، دل بها على صدقهم.
قال الملحد: كأنك تقول: إن شرائع الأنبياء خارجة عن العقول، إذ قلت: لا يُعلم كيفيتها بها.
قال القاسم عليه السلام: أما قولك: إن شرائع الرسل خارجة عن العقول إذ ليس فيها كيفيتها. فإني لم أقل لك ليس فيها كيفيتها بتة، بل اشترطتُ لك فقلت لك: إنه وإن لم يكن فيها كيفيتها ففيها جواز كونها.
قال الملحد: وكيف ذلك ؟
قال القاسم عليه السلام: هو مثل ما تعرفه في الشاهد، وذلك لو أن سيدا أمر عبده ببناء دار، أو قطع شجرة، أو إعطاء عبد الله، أو ضرب زيد، فإنه ليس في العقل أن السيد يأمر به، فإذا أمر به كان في العقل أن الإئتمار به حسن، وأن تركه قبيح، إذا كانت لأمر سيده عاقبة محمودة، ومرجع نفع إلى العبد، فالعقل يجوِّز الأمر بكل شيء على حياله، ولا يوجب شيئا من ذلك دون شيء، إذا كان ذلك الأمر مما ينتقل حاله في العقل، وذلك أنه قد يكون المشي إلى موضع ما حسنا في العقل، إذا كان للمشي معنىً حسن، فأما اللواتي يُدرك حكمها في العقل، فقد أدرك بأن الآمر بها لا يأمره إلا بما هو حسن، ولا ينهى إلا عن ما هو قبيح عنده.
قال الملحد: فحدثني عن الصلاة والصيام وغيرهما من الشرائع، هل له أصل في العقل تفرَّع هذا منه ؟(1/128)


قال القاسم عليه السلام: أجل، قد أخبرتك به آنفا، وهو كالأمر بالمشي إلى موضع ما، وكضرب زيد، وإعطاء عبد الله، ليس له أصل في العقل، أكثر من الإئتمار لأمر الحكيم، ووجه الحكمة فيه أن الآمر إنما يأمر به لينظر هل يأتمر به المأمور فيجازيه لذلك ؟ لا سيما إذا كان الآمر مستغنيا، غير محتاج إلى ما يأمر به، وإنما يأمرهم ليمتحنهم، وليظهر بذلك أعمالهم، فإن الأمر به حسن، وعلى ذلك سبيل الشرائع كلها.
قال الملحد: خبرني عن كيفية معجزاتهم.
قال القاسم عليه السلام: هو قلب العادات، وأن لا يترك العادات جارية على مجراها، فإذا جاء أحدهم وقال له قومه: ما الدلالة على صدقك، قال: الدليل أن الله يقلب عاداتهم، في كذا، وكذا، إلى كذا وكذا، فحينئذ يعرفون صدقه، ويضطرون إلى قبول قوله، وهذه سبيل المعجزات كلها، وبمثل ذلك يفرق بين النبي والمتنبي، وبين الصادق والكاذب.(1/129)


[الحكمة من الموت والبعث]
قال الملحد: فإنه بقي في قلبي شبهة، فأحب أن تقلعها بحسن رأيك ونظرك.
قال القاسم عليه السلام: هاتها لله أبوك !
قال الملحد: أخبرني عن الله عز وجل، لِمَ يميت الإنسان، ويصيِّره ترابا، بعد أن جعله ينطق بغرائب الحكمة، وبعد هذه الصورة العجيبة البديعة ؟! ولِمَ يفني العالم كله ؟! أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء فنقضه لا لمعنى، هل يكون حكيما ؟!
قال القاسم عليه السلام: ليس الأمر كما ظننتَه، أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء للشتاء فلما جاء وقت الصيف نقضه وبناه للصيف، هل يكون حكيما ؟
قال [الملحد]: نعم.
قال [القاسم] عليه السلام: ولِمَ ؟
قال [الملحد]: لأن الذي اتخذه للشتاء، لا يصلح للصيف، وكذلك الذي اتخذه للصيف لا يصلح للشتاء.
قال القاسم عليه السلام: وكذلك الله عز وجل، خلق الدنيا وما فيها للإبتلاء، فإذا انتهى إلى أجله وحينه، أفناها، ويعيدها ثانيا ? ليجزي الذين اساءوا بما علموا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ? [النجم:31]. ولا يكون ذلك خروجا من الحكمة، بل الحكمة أن لا يضيع الثواب والعقاب.
قال الملحد: إن التوحيد، والتعديل، والرسل، قد تكلم فيه ناس من أهل الملل وكل يشك في الميت، هل يحيى أم لا ؟ وكلٌ يجيء في ذلك بشيء، فإن دللتَ على ثباته، وكيفيته، لم تبق لي مسألة، وحينئذ آمنت بربي.
قال القاسم عليه السلام: أما الدلالة على ثباتها فإني وجدت الله تبارك وتعالى حكيما، قد امتحن خلقه، وأمرهم، ونهاهم، وكان قول من يقول بإزالة الإمتحان، داعياإلى الإهمال، والإهمال داعٍ إلى أن الله غير حكيم، وإذاً جاز أن يكون العالم قديما. لأنه لا فرق بين أن يفعل من ليس بحكيم هذا الصنع العجيب، وبين أن يقع فعل لا من فاعل، والأشياء موجودة، فتكون قديمة أزلية، لا فاعل لها.(1/130)

26 / 201
ع
En
A+
A-