[توحيد الخالق]
قال الملحد: ما الدلالة على أن صانع العالم واحد ؟
قال القاسم عليه السلام: لأنه لو كان أكثر من واحد، لم يخل من أن يكون كل واحد من الصانعين حيا، قادرا. أو ليس كذلك ؟! فإذا كان كل واحد منهما حيا قادرا، لم يكن محالا متى أراد هذا خلق شيء، أن يمنعه الآخر من خلقه لذلك الشيء بعينه، ولو منعه صاحبه من ذلك، كان الممنوع عاجزا، ودَلَّك عجزه على حدثه! وإن تمانعا، وتكافأت قواهما، وقع الفساد، ولم يتم لواحد منهما خلق شيء، ودخل عل كل واحد منهما العجز، إذ لم يقدر كل واحد منهما على مراده. فلما وجدنا العالم منتظما، مُتَّسق التدبير، دلنا على أن صانع ذلك ليس باثنين، ولا فوق ذلك.
قال الملحد: ما أنكرت أن يَتَّفِقَا، ويصطلحا ؟
قال القاسم عليه السلام: إن الإتفاق والإصطلاح يدلان على حدث مَن تعمدهما، لأنهما لا يتفقان إلاَّ عن ضرورة، والمضطر فمحدث لا محالة.
قال الملحد: إنهم يقولون: إن صانع الخير لا يأتي بالشر أبداً، وكذلك صانع الشر لا يأتي بالخير أبداً .
قال القاسم عليه السلام: إن هذا مكابرة العقول.
قال الملحد: وكيف ذلك ؟
قال القاسم عليه السلام: لأن ذلك يدعو إلى القول بأن أحدا لم يذنب قط، ثم اعتذر من ذنبه؛ وإلى القول بأن إنسانا واحدا لم يصدق ولم يكذب، ولم يضل ولم يهتد، ألا ترى أنهم يزعمون أن انتحالحهم حق، وأنه واجب على الناس الرجوع إلى مذهبهم، فإن كان الشيء الواحد لا يأتي بالخير والشر، فحدثني مَن يدعون إلى مذهبهم ؟ فإن قالوا: الخير. قيل: فإن الخير لا يضل أبدا. وإن قالوا: الشر. فالشر لا يهتدي أبدا. فليت شعري مَن هذاالذي يدعونه إلى مذهبهم.
قال الملحد: لعمري لقد أَلْطَفْتَ في الإستخراج على القوم، ولعمري إن هذا مما يقطع شغبهم، ولكنهم يقولون: لما كان في العالم خير وشر، دلنا ذلك على أنهما من أصلين قديمين.(1/121)


قال القاسم عليه السلام: أما وجود الخير والشر في العالم، فإنا نجده؛ إلاَّ أن هذا يدلنا على أن صانع العالم واحد.
والدليل على ذلك: أن الخير والشر، معتقبان على الخيِّر والشرير، ووجدناهما محدثين، وقد قدمنا الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية، وبيَّنا أن العالم أصله وفرعه محدث، وأن المحدَث يقتضي المحدِث، (فإن كان حكم فاعله كحكمه، أوجب ذلك حدوث صانع العالم، ويقتضي المحدِث)، فإن كان هذا هكذا، فلكل صانعٍ صانعٌ، إلى مالا نهاية له، وقد بيَّنا فساده آنفا.
ووجه آخر وهو: أن الخير والشر ليس اختلافهما يدل على قدمهما، ليس اختلافهما بأعظم من اختلاف الصور والهيئات. وقد قلنا: إن اختلافهما يدل على من خالف بينها، واخترعها مختلفة، فلو كان الخير والشر وسائر المختلفات قديمة، لكان فيها دفع الضرورات.
ووجه آخر: ذلك أنا نرى خيرا لمعنى، وشرا لمعنى آخر، ونرى الخير والشر مجتمعين في حين واحد، فلا يخلوان في حال اجتماعهما من أمور: إما أن يكونا اجتمعا بأنفسهما، أو جمعهما غيرهما، فإن كانا اجتمعا بأنفسهما فمحالٌ، وذلك أنهما ضدان، والضدان لا يجتمعان بأنفسهما، لأنا نشاهد نفورهما، وفرار كل واحد من صاحبه، فإذ فسد ذلك، لم يبق إلا أن جامعا جمعهما.
ووجه آخر وهو: أنه لو كان وجود الخير والشر، دآلا على أن لهما أصلين قديمين، لكان وجود الطبائع الأربع دآلا على أن لها أصولا قديمة، وإذا كان هذا هكذا، دلنا على أن شاهدهم شاهد زور.(1/122)


[حكمة خلق العالم]
قال الملحد: فإذا لم يكن العالم واحدا قديما، ولا كان مزاج الاثنين، وكان صنعا من صانع قديم؛ فحدثني. لِمَ خلق الله هذا العالم ؟
قال القاسم عليه السلام: إن هذا الكلام فرع من أصل، فإن سلَّمت لي الأصل كلمتك فيه، وإلا نازعتك في الأصل.
قال الملحد: وما ذلك الأصل ؟
قال القاسم عليه السلام: هو أن تعلم بالدلائل: أن العالم محدَث، وأن له محدِثا، ثم تعلم: أن محدِثَه واحد، قديم ؛ ثم تعلم: أنه قادر، حي، حكيم في نفسه، وفعله.
قال الملحد: قد دللت على الصانع، وعلى أنه واحد، فما الدليل على أنه قادر حي حكيم ؟
قال القاسم عليه السلام: الدليل على ذلك أنا وجدنا الفعل المتقن المحكم متعذرا إلا على القادر الحي الحكيم العالم؛ فلمَّا وجدنا الفعل المحكم واقعا، دلنا ذلك على أن صانعه عالم، قادر، حي، حكيم.
قال الملحد: فهل وجدت الفاعل الحكيم القادر سوى الإنسان ؟
قال [القاسم]: لا.
قال [الملحد]: أفتقول إنه إنسان ؟
قال [القاسم]: إني وإن لم أجد إلا إنسانا، فلم يقع الفعل منه لأنه إنسان، إذ قد وجدنا إنسانا تعذر عليه الفعل، فلما وجدناه متعذرا عليه ؛ دلنا ذلك على وجود فاعل ليس بإنسان.
ألا ترى أنا لما قلنا: إنه لا يجوز كون الفعل إلا من قادر حكيم، جائز منه ذلك. فكان قولنا فيه مستمرا ؛ ولما لم يستمر القول في ذلك لم نقل به.
(قال الملحد: قد أبلغتَ في هذا، فنرجع إن شئت إلى مسألتي.
قال [القاسم]: سل) .
قال [الملحد]: لِمَ خلق الله العالم ؟
قال القاسم عليه السلام: قال الله سبحانه: ? هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ?[الملك:2]، وقال: ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ?[الذريات:56]، وقال: ? وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ?[الجاثية:13]. فأخبر أنه خلقنا للعبادة، والإبتلاء، وليبلغ بنا إلى أرفع الدرجات، وأعلى المراتب.
قال الملحد: فما دعاه إلى خلقنا ؟ ألحاجة خلق ؟(1/123)


قال القاسم عليه السلام: أما قولك: ما دعاه ؟ فمحال.
وذلك أنه لم يزل عالما بلا سهو، ولا غفلة. فقولك: ما دعاه ؟ محال. لأن الدعاء، والتنبيه، والتذكير، إنما يحتاج إليها الغافل؛ فأما الذي لا يجوز أن يغفل، فمحال أن يدعوه شيء إلى شيء ؛ إذ لا غفلة هناك، و لا سهو. والدليل على ذلك: أن الغفلة من الدلالة على الحدوث ؛ وقد قامت الدلالة على أنه قديم. وأما قولك: ألحاجة خلق ؟ فالحاجة أيضا من صفات المحدثين، والقديم يتعالى عنها.
قال الملحد:فلِمَ خلق ؟!
قال القاسم عليه السلام: أما قولك: لِمَ خلق ؟ فقد أجبتك، وذلك في الجوابين السابقين لهذا. لأن قولك ((لِمَ)) ؟ سؤال. وقولي: (( لأن)) إجابة.
قال الملحد: فما وجه الحكمة في خلق العالم، وخلق الممتحَنين ؟
قال القاسم عليه السلام: وجه الحكم في ذلك، أنه إحسان، أو داع إلى إحسان، وكل مَن أحسن، أو دعا إلى إحسان، فهو حكيم فيما نعرفه.
قال الملحد: وكيف يكون حكيما من خلق خلقا فآلمه بأنواع الآلام ؟ وامتحنه بضروب من الإمتحان، أخبرني عن وجه الحكمة في ذلك، من الشاهد ؟
قال القاسم عليه السلام: أما قولك: كيف يكون حكيما، من خلق خلقا، فآلمه بأنواع الآلام ؟ فوجه الحكمة في ذلك من الشاهد، أنا وجدنا من الآلام في الشاهد ما هو داعٍ إلى الإحسان. من ذلك: ضرب المؤدِّبين للصبيان ومنه الحجامة، والفصد، وشرب الأدوية الكريهة؛ كل ذلك داعية إلى الإحسان، وإلى شيء حسن في العقل، فإذا كان من الآلام في الشاهد ما هو كذلك، فكل ما كونه من قِبَلِ الله عز وجل، مثل الموت والمرض والعذاب وغيره، حكمة في الصنع، وصواب في التدبير، إذ كان كل ذلك داعية إلى إحسان.
قال الملحد: ما الدليل على أن ذلك داعية إلى الإحسان ؟(1/124)


قال القاسم عليه السلام: الدليل على ذلك أنها أفعال الحكيم، وقد صح أن الحكيم إنما يفعل هذه الأشياء، التي هي الترغيب في السلامة والصحة والخير، والترهيب من الغم والشر والسقم. ومن رغَّب في الخير، فحكيم في ما نعرفه.
وأما قولك: لِمَ امتحن امتحانات، عَطِبَ أكثرهم عندها ؟
فإنا نقول في ذلك ولا قوة إلا بالله: إن الله سبحانه إنما امتحانه وأمره ونهيه، داعية له إلى الخير، فمن عطب فمن قِِبَل نفسه عطب، لأنه لم يأتمر بما أمره الله سبحانه ؛ ولا انتهى عما نهاها عنه، ولو كان انتهى عما نهاه عنه، وركب ما أمر به، لكان يؤديه ذلك إلى الفوز العظيم.
فهو: من قبل نفسه عطب؛ لا من قبل الله عز وجل.
ومثل ذلك فيما نعرفه: أن حكيما من حكمائنا لو أعطى عبيدا له دراهم، وقال لهم: اتجروا، فإن ربحتم، ولم تفسدوا، فأنا معطيكم ما يكفيكم، وإن لم تفعلوا عاقبتكم. فأطاعه منهم قوم، وعصاه آخرون، لم ترجع اللائمة عليه، بعصيانهم إياه؛ ولكنها لاحقة بهم، حين عصوه، ولم يخرج دعاء سيدهم إياهم وعطيتهم من الحكمة؛ إذ لم يدعهم به إلا إلى الإحسان، فلما كان ذلك كذلك، كان الله حكيما، بامتحانه وأمره ونهيه.
قال الملحد: إن الله يعلم ما هم صائرون إليه، ونحن لا نعلم ذلك.
قال القاسم عليه السلام: إن الجهل، والعلم، لا يحسِّن الحسن، ولا يقبِّح القبيح، وذلك لأنه لو كان حسنا لأن الآمر به يعلم أنه يفعله لكان ذلك قبيحا، إذا كان الأمر منا بما يصير إليه المأمور جاهلا، فلما لم يكن ذلك قبيحا لجهل الآمر منا، لأنه إنما أمر بالحسن ودعا إلى الحسن، وإن كان جاهلا بما يصير إليه المأمور [دل ذلك على أنه لا فرق بين أن يكون الآمر بالحسن، والداعي إلى الحسن، جاهلا بما يصير إليه المأمور]، أو عالما.(1/125)

25 / 201
ع
En
A+
A-