وفيه معنى آخر وهو: أنك إذا جعلت الأشياء في وهمك شيئين، إذا أفردت كل واحد من صاحبه نقص، وانتهى إلى حد ما وقلَّ، وإذا جمعت كل واحد إلى صاحبه زاد، وانتهى إلى حد ما وكثر، أفليس إذا انتهى في حال، وزاد فكثر أو نقص فقلَّ، فالنقص والزيادة يخبران بالنهاية عنه ؟! وإذا ثبت فيه النهاية، ثبت فيه الحدوث!!!(1/116)


[نظرية الكمون والظهور]
قال الملحد: ما أنكرت أن تكون صورة التمرة والشجرة كامنة في النواة، فلما وجدتْ ما شاكلها ظهرت ؟!
قال القاسم عليه السلام: إن هذا يوجب التجاهل، وذلك أنا لو تتبعنا أجزاء النواة لم نجد فيها ما زعمت.
وشيء آخر وهو: أنه لو جاز هذا لجاز أن يكون الإنسان كامنةً فيه صورة الخنزير، والحمار، والكلب، وإذا كان ذلك كذلك، كان الإنسان إنسانا في الظاهر، كلبا، حمارا، خنزيرا، فيلا، في الباطن !! فإن قلت ذلك، لحقت بأصحاب سوفسطاء . فإن شئت تكلمنا فيه. على أنه قد ظهر من حمقهم لأهل العقول ما يزعهم عن القول بمقالتهم.
قال الملحد: وكيف يجوز أن يكون الإنسان إنسانا في الظاهر، وكلبا حمارا خنزيرا فيلا، في الباطن ؟! قال القاسم عليه السلام: كما جاز أن تكون صورة التمرة والنخلة كامنة في النواة!!
قال الملحد: فإن بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة، و ليس بين الإنسان والكلب مشاكلة.
قال القاسم عليه السلام: لو كان بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة مع اختلاف الصورة، لجاز أن يكون بين الإنسان والكلب مشاكلة!!
قال الملحد: فإن النواة إذا انتقلت من صورتها، انتقلت إلى صورة النخلة.
قال القاسم عليه السلام: وكذلك الإنسان إذ تفرقت أجزاؤه جاز أن يكون كلبا في الطبع والقوة والهيولية عندك، فمهما أتيت به فيه من شيء تريد الفرق بينهما فهو لي عليك، أو مثله.
ووجه آخر وهو: أن الصورة لو كانت في الأصل نفسه، لكان الأصل نفسُه هو التمرة، لأن التمرة إنما بانت من سائر المصورات، وعرفت من غيرها بالصورة، فعلى هذا يجب أن يكون أصلها التمرة، وهذا مكابرة العقول، لأنه لو كان هذا هكذا، لكان ظهورها في نواتها أقرب وأشهر وأعم، ولم يستحل وجود صورتين معا في حين واحد.
قال الملحد: إن النواة هي تمرة بالقوة الهيولية، أعني أنها إذا انتقلت لم تنتقل إلا إلى شجرتها، ثم إلى ثمرتها، ثم تعود إلى أصلها، ثم تصير نواة في وسطها.(1/117)


قال القاسم عليه السلام: لو كان هذا هكذا، لكانت الطبيعة التي هي الأصل تمرة بالقوة الهيولية، إن كنت ممن يقول بالدهر، وإن كنت ثنويا فالنور والظلمة، وما أصَّلتَ من أصل فيجب على هذا أن يكون ذلك الأصل تمرة بالقوة، لأنها إذا انتقلت انتقالاتها صارت تمرة، وهذه مكابرة واضحة، وذلك يوجب عليك أن الأصل البحت: تمرةٌ، نواةٌ، خوخةٌ، باذنجانةٌ، لأنه جائز عندك الإنتقال من صورة إلى صورة. وإن كان حكم الأصول في الهيآت خلاف حكم الفروع فسنقول فيه قولا شافيا إن شاء الله.
قال الملحد: إن صَحَّحْت أن حكم الأصول حكم الفروع، تركتُ مذهبي، فإنه قد عظُمت عليَّ الشَّبهة في هذا الموضع.
قال القاسم عليه السلام: اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفة.
فمنها: ما يعرف بالحس.
ومنها: ما يعرف بالنفس.
ومنها: ما يعرف بالعقل.
ومنها: ما يعرف بالظن والحسبان.
فأما الذي يعرف بالحس فطرقه خمس:
سمع، بصر، شم، ذوق، لمس.
فالسمع طريق الأصوات، والكلام.
والبصر طريق الألوان، والهيئات.
والذوق طريق المطعوم.
والشم طريق الأرايح.
واللمس طريق اللين والخشونة.
وما يعرف بالنفس فالخجل، والوَجَل، والسرور، والحزن، والصبر، والجزع، واللذة، والكراهية، وما أشبه ذلك من التوهم، وغيره.
وأما ما يعرف بالعقل فشيئان:
أحدهما: يدرك ببديهته مثل تحسين الحسن، وتقبيح القبيح، وحسن التفضل، وشكر المنعم، ومثل تقبيح كفر المنعم، والجور، وما يجانسه من عِلْم بَدآئِهِ العقول.
والوجه الثاني هو: الإستنباط، والإستدلال، الذي هو نتيجة العقول كمعرفة الصانع، وعلم التعديل، والتجوير، والعلم بحقائق الأشياء.(1/118)


وأما ما يعرف بالظن والحسبان فهو: القضاء على الشيء، بغير دليل، فهذا ربما يصيب، وربما يخطي، وإنما لخصت لك هذا كله، ليكون عوناً لنا فيما تأخر من كلامنا، ويكون أحد المقدمات التي نرجع إليها، فكل شيء من هذه العلوم لا يصاب إلا من طريقه، ولو حاولته من غير طريقه لتعسر عليك، وكنت كمن طلب عِلْم الألوان بالسمع، وعِلْم الذوق بالعين.
فأما أحوال الأجسام فإن طريق المعرفة بها من جهة البصر، والبصر لا يؤدي إلى الإنسان إلا الأجسام، لأن الأجسام لا يجوز أن تخلو من هذه الصفات، فيتوهمه ويمثله في نفسه خاليا منها، فإذا لم يجز ذلك، ثبت أن الأجسام لا تخلو من هذه الصفات، وأنه لا يكون حكم أصولها إلا كحكم فروعها.(1/119)


[علة وجود الأشياء وفسادها]
قال الملحد: إنهم يزعمون أن علة كون الأشياء، وفسادها حركات الفلك، وسير الكواكب، وبعضهم يقول: إن علتها تمازُج الطبيعتين، أعني النور والظلمة، وبعضهم يقول غير ذلك.
قال القاسم عليه السلام: الدليل على فساد قولهم: قول الله تبارك وتعالى: ? ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر?[النحل:70]، وقوله: ? ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا تعقلون ?[يس:68].
فلو كان علة كونه ما ذكروا لكان الإنسان لا يتوفى في طفوليته، ولا يفسد كونُه، مع وجود علة كونِه، اللهم إلاَّ أن يُقرُّوا بحدوث علة الفساد، فيكونوا حينئذ تاركين لمذهبهم، فإن قالوا: بل علة كونه وفساده قديم. فالشيء إذا كان فاسدا في حال، كان فيها صالحا، إذْ عللهما موجودة، ومحال أن تكون عللهما موجودة ويتوفى هذا في الطفولية، ويرد هذا إلى أرذل العمر، وينكس هذا في الخلق. إذ يعمر؛ إن هذا لعمري لعكس العقول.
قال الملحد: لو لزمهم ذلك، للزمك حين زعمت: أن الله علة كون الأشياء وفسادها، مثل ما ألزمت خصومك.
قال القاسم عليه السلام: ولا سواء! وذلك أنا لا نزعم أن الله علة كون الأشياء وفسادها، بل نزعم: إن الله تعالى هو الذي كون الشيء، وأفسده من غير ما اضطرار. والدليل على أن الله عز وجل ليس بعلة فعِله ذلك؛ أنَّ أفعاله مختلفة الأحوال، منتقلة الصفات. فلو كان هو العلة لما زال شيء عن صفته، لأنه عز ذكره قديم، والقديم لو كان علة شيء، لم يزل معلولُه، كما لم يزل هو في ذاته، وزوال الأشياء عن صفاتها يدل على أن الله عز وجل ليس بعلة ولا معلول.
فقال الملحد حينئذ: بارك الله فيك، وفي من وَلَدَك، فقد أوضحت ما كان ملتبسا عليَّ ؛ وإني سائلك عن غيرها، فإن أجبتني عنها كما أجبتَ أسلمتُ.
قال القاسم عليه السلام: إن أسلمتَ فخيرلك، وإن أصررت فلن يضر الله إصرارك! سل عما بدا لك.(1/120)

24 / 201
ع
En
A+
A-