مناظرة مع ملحد
[مدخل إلى المناظرة]
بسم الله الرحمن الرحيم
قيل: كان وافى مصر رجل من الملحدين فكان يحضر مجالس فقهائها، ومتكلميها، فيسألهم عن مسائل الملحدين، وكان بعضهم يجيب عنها جوابا ركيكا، وبعضهم يزجره ويشتمه، فبلغ خبره القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وكان بمصر متخفيا، في بعض البيوت فبعث صاحبَ منزله ليُحضره عنده، فأحضره، فلما دخل عليه قال له القاسم رضي الله عنه: إنه بلغني أنك تعرضت لنا، وسألت: أهل نحلتنا، عن مسائلك، ترجو أن تصيد أغمارهمبحبائلك، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله، والذب عن دينه، ونطقت على لسان شيطان رجيم لعنه الله:? وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ? [النساء- 118].
فقال الملحد: أما إذا عبْتَ أولئك، وعيرَّتهم بالجهل فإني سائلك، وممتحنك، فإن أجبت عنهم فأنت زعيمهم، وإلا فأنت إذا مثلهم.
فقال القاسم عليه السلام: سل عما بدا لك، وأحسن الإستماع، وعليك بالنَّصَفَة، وإياك والظلم، ومكابرة العيان، ودفع الضرورات، والمعقولات، أجبك عنه، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل.(1/111)


[إثبات وجود الصانع وحدوث العالم]
فقال الملحد عند ذلك: حدثني ما الدلالة على إنية الصانع ؟
قال القاسم عليه السلام: الدلالة على ذلك قوله في كتابه عز وجل: ? يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد على شيئا وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شئ قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ? [النساء 5 - 7].
ووجه الدلالة في هذه الآية فهو: كون الإنسان تراباً، ثم نطفة، ثم علقة، لا تخلو هذه الأحوال من خلتين:
إما أن تكون مُحْدَثَة، أو قديمة، فإن كانت محدثة فهي إذاً من أدل الأدلة على وجود إنِّيَّته، لعلل:
منها: أن المُحْدَث متعلق في العقل بُمْحدِثِهِ، كما كانت الكتابة متعلقة في العقل بكاتبها، والنَّظم بناظمه. إذ لا يجوز وجود كتابة لا كاتب لها، ووجود أَثَر لا مؤثر له في الحس، والعقل.
ومنها: أن المُحْدَث هو ما لم يكن فَكُوِّن، فهو في حال كونه لا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون هو كَوَّن نفسه، أو غيره كَوَّنَه !!
فإن كان هو الذي كَوَّن نفسه لم يخل أيضا من أحد أمرين:
إما أن يكون كَوَّن نفسه وهو معدوم، أو كَوَّنَهَا وهو موجود! فإن كان كَوَّنَهَا وهو معدوم، فمحال أَنْ يكون المعدوم أوجد نفسه وهو معدوم. وإن كوَّنها وهو موجود، فمحال أن يكون الموجود أوجد نفسه وهو موجود. إِذْ وجود نفسه قد أغناه عن أن يُكَوِّنَهَا ثانياً. فإذا بطل هذا ثبت أن الذي كَوَّنَهُ غيره، وأنه قديم ليس بمُحْدَث، إذ لو كان محدثا كان حكمه حكم المحدثات.(1/112)


وإن كانت الأحوال قديمة فذلك يستحيل، لأنا نراها تحدث شيئا بعد شيء في حين واحد، في نفس واحدة، فلو كانت كلها مع اختلافها في أنفسها وأوقاتها قديمة، لكانت الترابية نطفة مضغة دما علقة عظما لحما إنساناً، في حالة واحدة، إذ القديم هو الذي لم يكن، ولم يزل وجوده، وإذا لم يزل وجود هذه الأحوال، كان على ما ذكرت وقلت، من كونه ترابا مضغة لحما عظما إنسانا، في حالة واحدة، إذ الأحوال لم يسبق بعضها بعضا، لأنها قديمة، ولأن كل واحد منها في باب القِدَم سواء، فإذا استحال وجود هذه الأحوال معا في حين واحد، في حالة واحدة، وثبت أن الترابية سابقة للنطفية، والنطفية سابقة للحال، التي بعدها، صح الحدوث، وانتفى عنها القِدَم، وإذا صح الحدوث فقد قلنا بَدِيّا: إن المحدث متعلق في العقل بمحدِثه.
قال الملحد: وما أنكرت أن تكون الأحوال حديثة، وأن العين ـ التي هي الجسم ـ قديمة.
قال القاسم عليه السلام: أنكرت ذلك من حيث لم أره منفكا عن هذه الأحوال بتة، ولا جاز أن ينفك (فلما لم أره منفكا من هذه الأحوال ولا جاز أن ينفك)، كان حكم العين كحكم الأحوال في الحدوث.
قال الملحد: ولِمَ ؟
قال القاسم عليه السلام: من قِبَل أنها ـ أعني العين ـ إذا كانت قديمة وكانت الأحوال محدثة، فهي لم تزل تحدث فيها الأحوال، وإذا قلت لم تزل تحدث فيها ناقضت، لأن قولك: لم تزل خلاف قولك: تحدث. والكلام إذا اجتمع فيه إثبات شيء ونفيه في حال واحد استحال. وذلك أنها إذا لم تزل تحدث فيها، فقد أثبتها قديمة لم تزل تحدث فيها، وإذا كان هذا هكذا فهي لم تسبق الحدث، فقد صار الحدث قديما، لأنه صفة الجسم الذي هو قديم، وإذا كانت صفته استحال أن تكون صفة القديم الذي لا يخلو منها ولا يزول عنها محدثة، وهذا محال بَيِّن الإحالة، لأن فيه تثبيت المحدث قديما، والقديم محدثا.
قال الملحد: فما أنكرت أن تكون هذه الأعيان هي التي فعلت الأحوال ؟(1/113)


قال القاسم عليه السلام: بمثل ما أنكرت زيادتك الأولى، لأنه لا فرق بين أن تكون هي الفاعلة، وهي لم تسبق فعلها، أو تكون هي قديمة وهي لم تسبق صفاتها، لأن الفاعل سابق لفعله متقدم له، وكذلك القديم الذي لم يزل، سابق للذي لم يكن، لأن في إثبات الفعل له إثباتَ حدثِ فعله، وإذا لم يسبق فعله فقد جمعت بينهما في حال واحد، وثَبَّتَّ للشيء الواحد القِدم والحدوث في حالة واحدة، وهذا محال بيِّن الإحالة.(1/114)


[نظرية الهيولى والصورة وحدوث الأشياء من بعضها]
قال [الملحد]: فإني لم أر كَوْنَ شيء إلا من شيء، فما أنكرت أن تكون الأشياء لم تزل يتكون بعضها من بعض ؟ وما أنكرت أن يكون الشيء الذي هو الأصل قديما ؟
قال القاسم عليه السلام: أنكرت ذلك أشد الإنكار، وذلك أن الشيء الذي هو الأصل لا يخلو من أن يكون فيه من الأحوال والهيئات والصفات مثل ما في فرعه، أَوَ لَيس كذلك ؟! فإن كان فيه مثل ما في فرعه، فحكمه في الحدث كحكمه، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية، على أنا نجد الصور والألوان والهيئات والصفات بعد أن لا نجدها فيه، ووجود الشيء بعد عدمه هو أدل الدلالة على حدثه!!
فحدثني عن الصورة من أي أصل حدثت ؟ فإن قلت إنها قديمة أحَلْتَ، وذلك أنها لا تخلو من أمور.
أحدها: أن الصورة لو كانت قديمة لكانت في هذا المصوَّر الذي ظهرت فيه الصورة، أو في عنصره الذي تسمونه "هيولى"، فإن كان في هذا المصوَّر بَانَ فساد قولكم ودعواكم، إذ قد نجده بخلاف هذه الصورة، وإن كانت في الذي تسمونه " هيولى"، فلا بد إذا ظهرت في هذا المصوَّر أن تكون قد انتقلت عنه إلى هذا فإن قلت: انتَقَلَتْ. أحَلْتَ، لأن الأعراض لا يجوز عليها الإنتقال، على أن في الصورة ما يرى بالعيان، فإن كانت منتقلة فما بالها خفيت عند الإنتقال، وظهرت عند اللبث ؟!
وفيه خلة أخرى وهي: أنها لو كانت في الأصل، ثم انتقلت عنه إلى فرعها، فقد جَعَلتَ لانتقالها غاية ونهاية، وإذا جعلت لها غاية ونهاية فقد صح حدث الذي انتقلت عنه هذه الأحوال.
فإن قلت: لم تزل تنتقل. كان الكلام عليك في هذا المعنى، كالكلام الذي قدمناه آنفا في " باب لم تزل تحدث ".(1/115)

23 / 201
ع
En
A+
A-