ألا ترى أنه ليس من المتحيرين في ذلك ولا من المنكرين، ولا من الجاحدين له المكابرين، مَن يرى أصغر صنع الصانعين بأكفهم، لوهنهم عن الابتداع وضعفهم، فليمتنع من الإقرار بصنعه وصانعه، وإن كان صانعه بريا عندهم من ابتداعه، ومن أنكر ذلك عنده، وكابر فيه فجحده، خرج بإنكاره لأقله، من العقل وصفة أهله، وقيل: ماله ـ وَيلَه ـ ما أعماه ؟ وأجهله بما لا يجهله أحد صحيح العقل فيما ظنه ورآه ؟! فكيف أنكر وتحيَّر ؟ وأبى مكابرة عن أن يقر ؟ بما يرى من الصنع والتدبير، في أكثر ما يراه أحد من الصنع الكبير، الذي لا خفاء فيه من القدرة والتدبير، والصنعة البينة والتأثير المنير، مما تقصر عنه الأفكار، وتنحسر فيه الأبصار، من الأرض والسماء، وما بينهما من الأشياء، التي يدل اضطررا دركُها، على من يدبرها ويملكها، وعلى أن من صنعها وأنشاها، إنما فطرها وابتداها، فابتدعها صنعا، وخلقها بدعا، يدل على ذلك فيبينه، ويوضح ذلك فينيِّره، ما يُرى من كثرة ذلك وسعة أقداره، وما يُعاين من بُعدِ ما بين أطرافه وأقطاره، مع ما فيه من لطيف التقدير والإحكام، وماله من طول البقاء والإقامة والدوام، فكل صنعه ولطيف تدبيره وتقديره وإحكامه، وما ذكرنا من بقائه وإمساكه وإقامته ودوامه، دليل بَيِّنٌ على صانعه ومحكِمِه، وممكسه بحيث هو ومُديمِه، وذلك الله العزيز الحكيم، والمتقن لما يشاء والممسك المديم، كما قال سبحانه: ? إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ? [فاطر:41]، فكل ذلك فقد جعله الله بحلمه ومغفرته قدرا مقدورا، ولا يكون القدر وهو القدر المقدور، إلا وهو لابد لربنا صنعٌ وخلقٌ مفطور، ولا يجحد ذلك أبدا ولا ينكره، إلا من عمي قلبه وفكره.(1/106)
فاسمع يا بني: هداك الله لما بيَّن في ذلك برحمته لما خلقه الله من الآيات الجليات، والدلائل المضِيَّات، ففي أقل استماعه، وفهمه عن الله واتباعه، ما أغنى مَن فَهِمَه وكفاه، وأبراه من كلِ داءِ حيرةٍ وشفاه، كما قال تبارك وتعالى: ? يا أيها الناس قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ? [يونس:57]، فإنك يا بني: إن تفهم أقل آياته وما دل به على نفسه في ذلك من دلالته حق فهمه تكن من الموقنين.(1/107)
فمن ذلك - فافقه مقالته جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله- ? هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ? [الملك:23]. فأخبرهم سبحانه من إنشائه لهم بما يرون عيانا ويبصرون، ومالا يقدرون على إنكاره إلا بالمكابرة لما يرون، إذ الجعل والإنشاء، إنما هو الزيادة والنماء، ولا خفا عندهم، ولو جهدوا جهدهم، بما يرونه والحمد لله عيانا من زيادتهم، في أنفسهم وسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، كما قال سبحانه لهم في ذلك، فإنما كانوا على ما وصفهم كذلك، يزيدون وينمون، وينشون ويتمون، حتى عادوا رجالا، بعد أن كانوا أطفالا، وصاروا كثيرا مذكورا، بعد أن كانوا قليلا محقورا، كما قال سبحانه: ? هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ? [الإنسان:1]. وقد أتى عليه أن كان ترابا ثم نطفة ثم علقة، ثم مضعفة مخلقة وغير مخلقة، وفي ذلك ما يقول الله تعالى ذكره: ? يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى ? [الحج: 5]. كما أحيا الأرض بعد همودها، وكذلك الله لا شريك له فموجود بما ذكر من الخلائق ووجودها، لا ينكر إلا بمكابرة ولا يجحده ولا يدفعه، مَن دلَّه على صانع من الصانعين ما كان وإن غاب صنعه.(1/108)
ألا ترى يا بني: أن من رأى كتابا عَلِمَ أن له كاتبا، وإن كان مَن كَتَبَه عنه غائبا، وكذلك من رأى أثرا، أو صورة ما كانت أيقن أن لها مصوِّرا، أو سمع مَنطِقا علم أن له ناطقا، وكذلك ما يُرى من هذ الخلق العجيب فقد يوقن من نظر وفكر أن له خالقا، ليس له مثل ولا شبيه، كما ليس بين صنعه وصنع غيره تمثيل ولا تشبيه، كما قال سبحانه: ? إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ? [الحج:73]، يخبر تبارك وتعالى أن لن يفعل أحد فعله، وكيف يفعل ذلك من ليس له بمثال، وإنما يكون تشابه الأفعال بين النظراء والأمثال.
وفيما وقَّف الله تبارك وتعالى عليه الإنسان بيانا، من رؤيته لصنع الله فيه وخلقه له عيانا، قوله سبحانه ? أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ? [يس:77]. والنطفة فهي: الماء المهين، ? فإذا هو ? بعد أن كان نطفة وماء مهينا ? خصيم مبين ?، والمهين فهو المهان، الذي لا قدر له ولا شان، وكذلك النطفة في صغرها، ومهانتها وقذرها. وخلق الله لها فهو تهيئته وتصريفه جل ثناؤه إياها، الذي قد رآه من الناس كلهم من رآها، من نطفة وماء مهين إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، وتخليق المضغة فهو تهيئتها، وتقدير الصورة الآدمية لها وتسويتها، التي لا يكون أصغر صغير رُؤِيَ منها إلا بخالق مهيء، مقدِّر حكيم مسوِّي، لا يُشك فيه ولا يُمترى، وإن خفي عن العيون فلا يُرى، وذلك فهو الله الذي ? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام:103]، وكيف تدرك الأبصار من ليس له مثل ولا ند ولا كفؤ ولا نظير ؟! لا كيف إلا عند جاهل عمي ! شآكٍ في جلال الله ممتري، لا يعرف ما بينه وبين الخلق، من المباينة والفرق.
فكل ما تسمع يا بنى بتعريف، وتبصير وتوقيف وتصريف، من الله الحكيم، الخبير العليم، الرحمن الرحيم، لدرك معرفته، واليقين به، من حجج الفكر والاعتبار، وحجج الرؤية والمعاينة بالأبصار.(1/109)
وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى: ? ألم يروا كيف يبدؤ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير ? [العنكبوت:19]. فابتداؤه جل ثناؤه له فهو ابتداعه وزيادته وإنماؤه، وإعادته فهو إلى ما كان عليه وهو مَحْقُه وتقليله وإفناؤه، وذلك كله فقد يراه ويعاينه، ويبصره ويوقنه، مَن كان حيا، مبصرا سويا، كما قال لا شريك له، لا يجهله إلا مَن تجاهله، ولا يخفى إلى على مَن أغفله ! ممن لعنه الله وخذله ! أولم تسمع كيف يقول سبحانه: ? قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ? [العنكبوت: 20]. وتأويل بدأ، فهو كان ونشأ، ونما فصار ناميا زائدا، ثم رجع إلى الفناء عائدا، فقلَّ بعد زيادته، وبلي بعد جِدّته. فمن يعمى بعد عيان هذا اليقين بربه، إلا مَن خذله الله فأسلمه إلى عمى قلبه، فكابر عيانه، وأنكر إيقانه، وهو يرى النور لائحا لا يخفى، والبيان ظاهرا واضحا لا يطفأ.
ومن البيان فيما قلنا من ذلك، ومن الدليل على أنه كذلك، قوله سبحانه: ? والله خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ? [الروم:54]، والضعف والشيب فهو الإفناء والتدمير.
تم كتاب الدليل الصغير، وصلواته وسلامه على رسوله سيدنا محمد النبي البشير النذير، وعلى أهله المخصوصين بالمودة والتطهير.(1/110)