[الله خالق الكون]
والدليل على أن الله صنعه وأنشاه، أن لا يُعلم له صانع ولا منشئ سواه، وأن نشأته بيِّنة، وصنعته نَيِّرة، بما تبيَّن فيه، ويشهد بتًّا عليه، بالنشأة والتدبير، والصنع والتقدير، من جيئته تارة وذهابه، ومفارقته وإيابه، وكل ما جاء وذهب، وفارق وتأوَّب، دل ذلك من حاله، على تصريفه واجتعاله، وثبت مصرفه بما ثبت من تصريفه، وبما يُرى بَيِّنا من اختلافه وتأليفه، ولم يكن مصرَّفٌ أبداً إلا من مصرِّف، ولا تأليف ما كان إلا من مؤِّلف، وكذلك اللباس فلا يكون أبداً إلا من ملبسٍ للباس، ولا النوم والسبات إلا من مسبت منيم بغير ما شبهة ولا التباس، لأن ذلك كله، وآخر ما يدرك من ذلك وأوله، صنعٌ وجعائل، لا تكون إلا من صانع جاعل، وفطرة وفعائل، لا تكون إلا من مفتطِر فاعل، وكذلك ما جعل الله سبحانه من النهار نشورا، فلا يكون إلا صنعاً مفطورا، لما يرى فيه من أثر الفطرة والصنع، وذلك فدلالة لا تخفى على الصانع المبتدع، وما أرسل تبارك وتعالى من الرياح بشرا بين يدي رحمته، فلا بد من وجودِ مرسله وولىِّ فطرته، وما أنزل سبحانه من الماء، من أجواء السماء، فلا بد من منزله، ومعرِّف رحمته فيه وفضله، لأن التفضيل لا يكون أبدا والرحمة، إلا ممن له مَنٌّ ونعمة.
وفي الماء وإنزاله، وحدره من المزن وإهطاله، ما يقول سبحانه: ? أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أُجاجا فلولا تشكرون ? [الواقعة:68 – 70].(1/101)
وما أحيى بمنزل الماء من موات البلاد، وما أسقاه من الأنعام وكثير العباد، فلا يمتنع فكرٌ عند وجوده كله، من وجود محييه وساقيه ومنزله، وما مُرِج فَحُلِّيَ من البحرين، فرؤي ممزوجاً رأي عين، كل بحر منهما مُخلاً يمعج، ولا ينقطع بعضه عن بعض ولا يعرج، متصلاً جميعا كله، غير منقطعٍ متصلُه، يسير في قرار موضعه وبين أكنافه، وفيما بين حدوده التي جعلت له وأطرافه، قدر مسير مسافة شهر وربما كان أشهراً عدة، يعلم ذلك من سمع بخبره أو رآه فأبصره عيانا مشاهدة، فإذا انتهى إلى ما جعل الله له من الحد ووقف عند حده وحاجزه، وما جعل بينه وبين البحر العذب الفرات من برزخه وحواجزه، فلم يَعْدُ من حدوده كلها حدا، ولم يجد له معه مطلعاً ولا مصعداً، وفيما جعله الله له موضعاً، ومقرا رحباً واسعاً، يرى طاميا فيه مشرفا، يركب بعضه بعضا ركوباً متعسفا.
فأي عجب أعجب، وأي دليل أقرب، لمن استدل بحقيقة من الحقائق، على ما نرى من الصنع في الخلائق، بين رؤية هذا وعيانه، والعلم به وإيقانه.
وفي ذلك بعينه، وفي دلالة تبيينه، ما يقول الله سبحانه: ? أم من جعل الأرض قرار وجعل خلالها انهارا وجعل بين البحرين حاجزا ? [النحل:61]. تذكيرا للمقرين بما يقرون، واحتجاجا على المنكرين بما لا ينكرون، إلا بمكابرة وجحدٍ لما يعرفون، من صنع الحاجز بين البحرين، وما بيَّن لهم منه بأوضح التبيين.
ولصنع ذلك وبيان جعله، وما ذكر الله معه من صنع مثله، ما يقول سبحانه: أم من جعل مالا تنكرون جعله، وإن كنتم لا تعرفون الجاعل له، وإذ لا بد عندكم لكل مجعول من جاعله، وكما يعرفون ذلك ولا ينكرونه في كل مجعول وأمثاله، فلا يشكُّون ولا يمترون، في أن لكل ما ترون من ذلك وتبصرون، جاعلا ببتٍّ إيقانا، وإن لم تروه عيانا.(1/102)
فمَن جاعل الحاجز بين البحرين وفاطره ؟! ومدبر ما يُرى من ذلك ومقدِّره ؟ إلا من ليس له مثل ولا نظير، ومن لا يُلغبه تدبير ولا تقدير، كما قال سبحانه: ? ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ? [ق:38]، وهل يدبر أويفتطر أقل ما يرى من بدائع الله وصنعه ـ سوى الله ـ واهبٌ أو موهوب، كلا لن يفتطره، ويصنعه أبدا ويدبره، سوى الله صانع، معطٍ ومانع، وإنما صُنْعُ مَن سوى الله إذا صنع، أن يعطي أو يمنع، أو يفرق أو يجمع، أو يرفع أو يضع، بعض ما وَلِيَ الله ابتداعه صنعا، أو كان من الله خلقا وبدعا.
وفي امتناع ذلك على المخلوقين، ما يقول رب العالمين: ? يا أيها الناس ضرب مثلٌ فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ? [الحج: 73]. فأقل بدائع صنع الله تبارك وتعالى فما لا يخلقه ولا يصنعه أبدا غالب من الخلق ولا مغلوب، ثم زاد سبحانه بما ذكر من الآيات في سورة الفرقان من الدلالة والتبيين دلالة وبيانا وتبصيرا، بقوله جل جلاله: ? وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ? [الفرقان:54]. والبشر الذين خلقه جل ثناؤه من الماء، فهو مالهم من الذرية والأبناء، ومنهم ولهم، وفيهم وبينهم، جعل سبحانه النسب والصهر لانتساب بعضهم إلى بعض، و مصاهرة بعضهم لبعض، لأن كلهم ينتسب، إلى أم أو إلى أب، وليس آدم عليه السلام بمنسوب إلى نسب، لأنه لم يخرج صلى الله عليه من رحم ولا صُلبٍ، ولم يصاهر بصهرأبدا، إذ كان كل البشر له ولدا، والماء الذي خلق الله منه ولده ونسله، فهي النطف التي لم تكن قبله، وفي ذلك كله وتصريفه، وعجيب صنعه وتأليفه، أدل الدلائل على مصرِّفه، وصانعه ومؤلِّفه، وكل ما ذكر الله تعالى من ذلك ومعجبه، فدليل على الله والحمد لله لاخفاء به.(1/103)
ومن الدليل على معرفة الله، والدواعي لليقين بالله، فمالا يجهله، بعد الإحساس له، إلا جاهل عصي، ولا يحصيه من الخلق كلهم - ولو جَهِدَ كلَّ جهدٍ - مُحصي، من خلق السماء والأرض، وغيرهما من الصنع والخلق، الذي في كل شيء منه على ناحيته وحياله، آية ودلالة نيرِّة على فطرتة واجتعاله. والفطرة والاجتعال، هما الوصلة والانفصال، وليس من السماء والأرض وما فيهما، ولا من كل ما يضاف من الخلق إليهما، ما يخلو من تفصيل أو توصيل، وفي ذلك على صنعه أدل الدليل. وآيات الله، فهن الدلائل على الله، والدلائل فهن العلامات المنيرات، والعلامات فهن الشواهد الظواهر البينات، وكل آية من آيات الله، فهي عَلَمٌ بيِّنٌ للمعرفةبالله، والدلائل على الله المنيرة الزاهرة، والآيات فيمعرفة الله البينة الظاهرة، في كل ما تدركه حاسة من الحواس الخمس، من عيان أو سمع أو شم أو ذوق أو لمس، ومن تنزيل الله لذلك وفيه، ومن الشواهد لله عليه، قوله سبحانه :?إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ? [البقرة: 164].(1/104)
وفي ذلك ما يقول جل جلاله: ? هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ? [يونس:5]. فكان كما قال جل ثناؤه، وصَدَقَ وعدُه وأنباؤُه، خلق ما خلق في ذلك من الخلق، مما ذكر في خلقه من الحقيقة والحق، وفصَّل فيه تبارك وتعالى كما قال: ? لقوم يعلمون ? آياته تفصيلا، فجعل كل شيء منه له آية وعليه دليلا، فما ينكر - شيئامن ذلك بمكابرة ولا يجحده، ولا يكابر الدليل فيه بمناكرة فيرده، - إلا من لا يعقل ولا يعلم ولا يتقي، ولقلة تقواه لله شَقِيَ بحيرته فيه مَن شقِيَ، وإنما يبصر ذلك ويتفكر فيه وينتفع به المتقون، كما قال سبحانه :? إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ? [يونس:6].(1/105)