ومن الدلالة على أن قوى النفس غير واحدة، وأنها قوى كثيرة ذوات عدة، ما ذكرنا من اختلاف أحوالها، وتغيُّرِها وانتقالها، وكل متغير، فتركيبه نَيِّر، والتركيب فحدث بَيِّن، ولا بد لكل حدث من صانع محدِث، لا ينكر ذلك إلا كل مكابر متعبِّث، ولا يكون حدث مصنوع مثل محدثه وصانعه أبداً، ولا مشبها له في شيء من الأشياء ولا نداً، لأنه أبدا إن أشبه المصنوع الصانع في معنى واحد من معانيه، جرى في ذلك من المعنى على الصانع من الحدث ما يجري عليه، صغر ذلك المعنى أو كبر، وقلَّ فيما يُدرك منه أو كثر، ولذلك جل الله سبحانه وتبرأ، من أن يكون مشبها من خلقه لشيء مما يُرى أو لا يُرى، ألا تسمع كيف يقول سبحانه :? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام: 103]. و? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11]. ويقول جل جلاله: ? الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ? [البقرة: 255]. فنفى سبحانه من قليل مشابهة خلقه في السِّنة ما نفى من كثيرها، تقدساً وتعالياً عن صغير المماثلة لخلقه وكبيرها، فتعالى من ليس له مثل يكافيه، ولا ند من الأشياء كلها يساويه، ولا يشك فيه ولا يمتري إلا مَن جهل نفسه فهي أقرب الأشياء إليه، وما يُرى من السماوات والأرض خلفه وبين يديه.(1/96)
[الدلائل على الله]
وفي أولئك، ومن كان كذلك، ما يقول رسل الله صلى الله عليهم، لمن أرسله جل ثناؤه إليهم : ? أفي الله شك ؟! فاطر السماوات والأرض ? [إبراهيم: 10]. تعجباً وإكباراً، و تفحشاً وإنكاراً، لشك الشاكِّين، مع ما يرون من فطرة الله في السماوات والأرضين، التي لا تخفى ولا تتوارى، عن كل من يبصر بعين أو يرى، أو يحس بحآسة حسَّاً، أو يتوجس توجساً، لأن كل أحد من الناس، لا يخلو من حس أو إيجاس، والإحساس ما يحس المحس بحوآسه، والتوجس فما يكون بالنفس بالتوهم من إيجاسه، فكل ذي نفس، أو درك يُحس بحسٍ، أو بحسوس أثر بالأرض والسماء، وبماله من الأعضاء، ففي إحساسه أو إيجاسه بأقل درك، بغير ما مرية ولا شك، ما دله على الصنع والتركيب، وعلى ما لله في ذلك من التدبير العجيب، الذي لا يكون أبدا أصغره، إلا وهو دليل مبين على من دبرَّه، لا ينكر ذلك أو يجحده، من يحسه ويجده، إلا بمكابرة ليقين نفسه، ومكابرة لدرك حسه، ومن صار إلى تلك من الحال، خرج من حدود المنازعة والجدال، ولم ينازعه بعد ذلكويجادله، إلا من هو في الجهل مثله. ولذلك ما يقول الله جل ثناؤه لرسوله: ? فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ? [النجم:30]. فأخبر سبحانه أن مبلغ من أعرض عن ذكره وتولى، ولم يرد - كما قال الله جل ثناؤه - إلا الحياة الدنيا، في فهمه وعلمه بدنياه، وما يريده منها ويرضاه، مبلغ البهائم في علمها بدنياها، وما تريده البهائم فيها من متعتها ومرعاها، ومن أجل ذلك ولذلك، وإذكانوا سواء كذلك، مثَّلهم الله من البهائم بأمثالهم، وجعلهم أضل من البهائم في ضلالهم، فقال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، ألم تر إلى ربك كيف مَدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ?(1/97)
[الفرقان:44 – 45]. ثم جعل سبحانه الاستدلال عليه بذلك بينا منيراً، فقال تعالى ذكره في قبضه للظل: ? ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً ? [الفرقان: 46]. يعني سبحانه تيسيرا هيِّنا، ظاهراً لا يخفى بيِّناً. وقبض الظل فهو فناؤه، وذهابه وانطواؤه، ولا ينقبض ويفنى، ويذهب ويُطوى، شيء مما كان أبداً، جميعاً كان أو فرداً، إلا كان قابضه ومفنيه، ومذهبه وطاويه، موجوداً يقيناً بلا شك ولا مرية فيه، وشاهداً بصنعه لصانعه، ودليلاً عليه مكفياً من علم غيب صانعه، وإن لم يُر بدرك اليقين، من درك مشاهدة كل حآسة من عين أو غير عين، وزيادة الظل ومده، فلا يكون إلا بمن يزيده ويمده، وإذا كان زآئده ومآده ومدبره، لا تدركه العيون ولا تبصره، وإنما تقع العيون على صنعه وفطرته، كان أدل على جلاله وقدرته.(1/98)
ثم أتبع ما صنع من مده سبحانه للظل وقبضه وتدبيره، بما ذكر وفطر وخلق وجعل من غيره، فقال تعالى: ? وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً، وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً، لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً، ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ..... وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أُجاج وجعل بينهما برزخا وحجراً محجوراً، وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا ? [الفرقان: 47 –54]. فقرَّر سبحانه بذكر آيات الظل ودلائله، ما يسمع من ذكر آيات خلقه وفطره وجعائله، رحمة منه ورأفة بعباده، وزيادة منه برحمته لهم من إرشاده، للمعرفة به والإيقان، إذ لا يدرك بحآسة ولا عيان، ولا يعرف ماله من الكبرياء والجلال، إلا بالشواهد والآيات والاستدلال، وكان دركه سبحانه بذلك أصح الدرك، وأنفاه لكل مرية وشك، لأن درك الإستدلال واليقين، لا يدخل عليه ولا فيه ما يدخل من الشك في درك العين، لأن العين ربما رأت الشيء شيئين، كالهلال تراه هلالين، كالشيء الصغير إذا بَعُد تراه كبيرا، وكالكبير إذا كان كذلك تراه صغيرا، ودرك اليقين والاستدلال والأفكار، فدركٌ بَريءٌ من كل شبهة وشك واحتيار، لا يزداد بالنظر والفكر إلا إستيثاقاً، ولا يتيقنه فيما أيقن به من الأمور كلها إلا استحقاقا، فدركه الدرك البتُّ اليقين، وعلمه العلم المثبت المبين.(1/99)
فمن تَفَهَّم يا بني - أرشدك الله - يسيراً قليلاً، مما ذكرنا لله من آياته عليه دليلاً، اكتفى بقليل ذلك ويسيره، كفاية كافية بإذن الله من كثيره، وكان في اقتصاره على اليسير القليل، كفاية له من التبيين والدليل، ومن ازداد في ذلك من الآيات والدلائل كان له في ذلك من المزيد، أكثر ـ والحمد لله ـ مما يريد في ذلك من كل مزيد، ولم يتقدم في الإستدلال فِتراً، إلا وجد منه شبرا، ولا في حسن النظر ذراعاً، إلا وجد بعدها باعاً، بل يجد أبداً سرمداً، زيادة في الدلالة ومدداً، يمده بما استمده، ويدله على الله وحده، لما وسَّع الله في ذلك للمقربين برحمته، ووهب فيه للمستدلين من نعمته.
ألا ترى كيف يقول سبحانه: ? وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً ? [الفرقان: 47]. ولباس الشيء فهو ما غشيه وواراه، ونوم النائم فهو ما أسبته وأهداه، وكلٌ فقد نعلمه ونراه.(1/100)