105- وسألت: عن قول نوح صلى الله عليه: ? ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ? [هود: 34] ؟
فإنما أخبر صلى الله عليه عن نفاذ قدرة الله فيهم ولم يخبر أنه يريد، ولا أنه لإغوائهم مريد، وإنما قال: إن كان، ولم يقل: أن قد كان، فقد أوضح وأبان، لكل من يعقل اللسان، أنه إنما أراد بقوله صلى الله عليه الخبر عما لله من الاقتدار، لا ما يذهب إليه من لم يهتد للرشد من أهل الإجبار، فأخبر أنه غير نافع لهم نصحه وإن أراد نصيحتهم، إن كان الله يريد هلكتهم، فصدق صلى الله عليه لأنه إن أراد شيئا و أراد الله أن يفعل سواه، ليكونن ما أراد الله صنعا وخلقا وشاه، ولا يكون من ذلك وفيه، ما أراد نوح صلى الله عليه، وكيف يريد الله إضلالهم وإغواءهُم ؟! وهو يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما إلى هداهم، ما يزعم هذا أو يقول به، إلا من جهل أمر ربه، في الرأفة والرحمة، والعلم والحكمة، وكيف تدعو رسلُه العباد، إلى خلاف ما شاء وأراد، الله أحكمُ أمرا وأجلُّ قدرا، من أن يكون في ذلك كما قال من خاب وافترى.
وكذلك ما قال شعيب صلوات الله عليه: ? وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ? [الأعراف:89]، فقال إلا أن يشاء، ولم يقل أن قد شاء، بل وكَّد بقوله فيه ومعناه، أن لن يريده الله أبدا ولن يشاه، ولكنه أخبر عن قدرته، على كل ما شاء في بريته.
ومثل هذا من التنزيل سوى قوله سبحانه: ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? [النساء: 116]، ولن يشاء أن يغفر لمن وعده من أهل الكبائر بالنار، لما فيه من إخلاف الوعد وإكذاب الأخبار، التي منها ? ولن يخلف الله وعده ? [الحج: 47]، و? ذلك يوم الوعيد ? [ق:20]، ومنها قوله: ? ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ? [ق:29]، وقوله جل ثناؤه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في منزل الكتاب: ? اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب ? [غافر: 17].(2/509)
ومثل ذلك قول عيسى صلوات الله عليه: ? إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ? [المائدة: 118].
وقول إبراهيم صلى الله عليه: ? فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ? [إبراهيم:36]، وكل ذلك منهم فإنما هو خبر عما لله من القدرة، على ما يشاء من العذاب والمغفرة.
106- وسألته: عن قول الله سبحانه: ? فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ? [الأعراف: 19] ؟
فهو ما وهب لهما من ولدهما وأعطاهما، جعلا [له] فيما أحسب بين الله وبينهما، يعبد الله ويحرث الحرث، وقد يذكر في التوراة أنهما سمياه عبد الحارث، وقالوا إن الحارث هو إبليس، فيما أحسب وَهْمٌ وَهِمتْه اليهود في التفسير فقالت فيه بالتلبيس، وأدخلوا مكان ما جعلاه له من الحرث عبد الحارث، فجعلوه عبدا لما جعلاه ولم يفرقوا فيه بين الحرث والحارث، ألا ترى كيف يقول سبحانه: ? فلما آتاهما صالحا ? يعني: ولدا ذكرا ? جعلا له شركاء ? منه فيما آتاهما، يريد تبارك وتعالى: نصيبا فيما أعطاهما، من صالح الولد، فجعلاه بينهما وبين التعبد، ألا ترى لقوله سبحانه فيه، إذا يُسلِماه كله إليه: ? فتعالى الله عما يشركون ? [الأعراف: 190]، يقول فتعالى الله أن يكون هو وهم في شيء من الأشياء مشتركون، كما قال في أهل الجاهلية: ? وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا - يعني شريكا - فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ? [الأنعام:136]. وكذلك قال الله تبارك وتعالى: ? ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا - يعني شريكا - مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ? [النحل: 56]. وليس يتوهم الشرك عليهما بالله، إلا من لا علم له فيهما بأمر الله.
107- وسألته: عن: ? وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ? [الأعراف: 172] ؟(2/510)
وذكرت ما قالت به العامة في ذلك من قولهم، وليس ما قالوا به فيه، بشيء مما يلفت إليه، لأنهم قالوا أخذ من ظهر آدم، وقالوا [أخذ] من بني آدم، وآدم غير بنيه وظهره غير ظهورهم، وذريته غير ذراريهم، والذراري تكون صغارا وكبارا، وأطفالا ورجالا، وكل أهل الجاهلية من رجال العرب الذين كانوا يشركون، قد أُخذوا ومعنى أُخذوا: أخرجوا ذرية من ظهور آبائهم من بني آدم لا يشكون، وكلهم كان شهد وأقر بأن الله ربه، وأن ما يرى من السماوات والأرض خلقه، فاستشهدهم الله على ربو بيته بما يشهدون، وبما كانوا يقرون به كلهم فلا ينكرون، وفي ذلك يقول سبحانه: ? ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ? [الزمر:38]، ولم يقل سبحانه إنه استشهد على ربوبيته أحدا من الأطفال، ولا يكون الاستشهاد والشهادة إلا للرجال.
والله أعلم ما يكون وغيره وما كان، ونسأل الله أن يُفهِّمنا ويُفهِّمك عنه البيان.
108- وسألته: عن: ? وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ? [الأنفال:44] ؟
فتأويل ? ليقضي ? ليتم أمره فيكم وفيهم، ونصرَه لكم عليهم. والتقليل من الله في أعينهم للمؤمنين، فإنه تبيينه من الله للمستبينين، والتقليل فقد يكون أنواعا، إن كان لأنواعه كله جماعا، ليس ينكرها ممن أنكر منكر، لأن الله على كلها - لا شريك له - مقتدر.
109- وسألته: عن: ? إن شر الدوآب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ? [الأنفال:22] ؟(2/511)
فهم رحمك الله أهل الكفر بالله الذين لا يؤمنون، والذين علم الله لو أسمعهم بزيادة في التبيين لما كانوا يسمعون، يريد تبارك وتعالى لما كانوا يطيعون، وفيهم ما يقول الله سبحانه: ? إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ? [الأنفال:55]. وفي أن السمع هو الطاعة، ما يقول سبحانه: ? ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ? [النساء:46].
110- وسألته: عن قول اليهود: ? عزير بن الله ? [التوبة:30] ؟
فقد يمكن أن يكون عنى بذلك ماضيهم، وأن يكون أيضا اليوم من يقول من باقيهم، وليس كلهم لقيت، وإنما لقيت منهم من شاهدت ورأيت.
111- وسألته: عن: ? وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ? [التوبة:114] فيما ذكر عنه رب العالمين، ? واغفر لأبي إنه كان من الضآلين ? [الشعراء:86] ؟
فلما تبين له أنه من أصحاب النار بالإصرار، تبرأ منه وما كان عليه من الاستغفار.
112- وسألته: عن: ? وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ? [التوبة:115] ؟
يقول سبحانه [ما كان] ليتركهم ضُلالا بعد تبيينه لهم لما بَيَّن حتى يُبيِّن لهم كل ما يحذرون.
113- وسألته: عن قوله: ? ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ? [السجدة:13] ؟
فقد يكون أن يكشف عنها عماها، ويريها من آياته ودلائله عيانا، ما يُحدث لها معرفة وإيقانا، لا يكون معه لها أجر، ولا يجب به لها ذخر، ويكون منها درك اضطرار، لا درك نظر ولا فكرة ولا اعتبار، وفي ذلك وبه الجزاء والثواب، وعلى ترك ذلك وفي إغفاله ما يجب العقاب، وهو وإن كان كذلك، فعلى ما وصفنا من ذلك، فهدى وبصيرة وغير حيرة ولا ضلال، وفيه إذا كان ما أخرج أهله من الجهل بالهدى ومن الضلال.
وهذا رحمك الله فوجه من الهدى، لا ينكره ولا يجهله من أبصر واهتدى، وما كان لهذه الآية مشابها ونظيرا، فكفى بهذا الجواب فيه حجة وبرهانا منيرا.(2/512)
114- وسألته: عن يونس صلى الله عليه، وقول الله سبحانه فيه: ? وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ? [الأنبياء:87] ؟
اعلم رحمك الله أن قوله: ? فظن ? أنه، ليس يخبر عن يونس بظنٍ ظنَّه، لأنه لو كان كذلك منه، لزال اسم الإيمان عنه، ولا يزول اسم الإيمان في حال، عن من خصه الله بالإرسال، وفي ذلك لو كان تجهيل للمرسِل، فيمن يصطفي ويختص من الرسل، ولكن ? فظن ? قول من الله في يونس قاله، يبين للسامعين زلة يونس وإغفاله، يقول سبحانه فظن يونس أن لن نقدر عليه، في إباقته من الفلك إلى من أبق إليه، فهو ليس يظن، ولكنه مقر موقن، بقدرتنا عليه، ونفاذ أمرنا فيه، فِما أبق إلى الفلك فاراً هاربا، وذهب مع يقينه بقدرتنا عليه مغاضبا، إلا لإغفاله وزلته، التي نجاه الله منها بتوبته، فهذا وجه ? فظن أن لن نقدر عليه ?، الذي لا يجوز غيره من الوجوه، وهو كلام صحيح لا تنكره فيه العقول.
115- وسألته: عن: ? فأوجس في نفسه خيفة موسى ? [طه:67] ؟
فلم يوجس صلى الله عليه أن يُغلب أو يُقهر، ولكنه أوجس ألا يبصر - من حضره من السحرة ومن الناس - حقيقة الحق كما أبصر، فيظنون أن ما جاء به من الحق كسحر السحرة، وأن موسى صلى الله عليه من الكفرة، وقد كان خاف قولا منهم واعتسافا فقالوا: ? إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ? [طه:63]، وقالوا فيه: ? فماذا تأمرون ? [الأعراف:110، الشعراء:35]، وقال موسى صلى الله عليه فيما قالوا به من ذلك: ? أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ? [يونس:77].
116- وسألته: عن قوله: ? وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ? [الحج:52] ؟(2/513)