فذلك واجب على من لم يسم مهرا، موسرا كان أو معسرا، وفي ذلك ما يقول سبحانه: ? على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ? [البقرة: 236]، والموسع فهو الموسر، والمقتر فهو المفتقر. فكلٌ يعطي على قدره، في يسره للمتمتعة وعسره، وليس في ذلك عدد معدود، ولا حد في الأشياء محدود، هذا فرض واجب، وحد في المتعة لازم، كما قال الله سبحانه: ? حقا على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ? [البقرة: 241- 242] ومن سمى من الأزواج لامرأة مهرا، فلها مهرها موسرا كان الزوج أو معسرا.
89- وسألت: عن قوله: ? منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ? [آل عمران: 7] ؟
فالمحكمات كما قال الله: ? فهن أم الكتاب ?، والمحكم منه فما صحت حجته في الألباب، والأم من علم كل شي، فهو البيِّن من علمه غير الخفي، وأم أمهات العلوم كلها، فأنور ما يكون من العلم عند أهلها، وكذلك الكتاب فمحكماته، من غير شك أمهاته، التي لا يشتبه على عالمهن منهن علم، ولا يدخله في الإحاطة بهن شك ولا وَهْمٌ، ولا يحتاج في البيان عنهن إلى إكثار ولا تطويل، بل تنزيل الله فيهن كافي من التأويل، كقوله سبحانه: ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى:11]، ? ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام: 103]، وقوله: ? هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ?[الزمر:9]، وقوله: ? إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ?[يونس:44].(2/499)
فهذا وأشباهه من كتاب الله فهو المحكم، الذي ليس فيه - بمنِّ الله - شبهة ولا وَهْمٌ. وأما متشابه الآيات من الكتاب، فلا يكون أبدا إلا متشابها كما جعله رب الأرباب، فليس يحيط غيره بعلمه ولم يكلف أحدا العلم به، وإنما كلف العلم بأنه من عند ربه، كما قال سبحانه: ? والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ? [آل عمران:7]، فجعل الإيمان به والعلم بأنه من عنده فريضة عليهم في متشابه الكتاب، ولو كان عند غيره بالاستخراج معلوما، لما كان متشابها في نفسه ولا مكتوما، وأزال عنه اسم الإخفاء والتشابه، كما يوجد له من المخارج في العلم والتوجه، ولما قال الله :? متشابها ? جملة وإرسالا، حتى يقال متشابها عند من كان به جاهلا، وفي تشابه كتاب الله وإخفائه، وما أراد بذلك سبحانه من امتحان كل محجوج وابتلائه، أعلمُ العلمِ وأحكمُ الحكمِ عند أهل العلم والحكمة، وأدل الدلائل على الله في الأشياء كلها من القدرة والعظمة.
90- وسألت: عن قول الله سبحانه: ? يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ? [آل عمران: 106] وقلت هل هنالك إلا مسود الوجه أو مبيضه ؟
وهم - رحمك الله - وإن كانوا كذلك، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك، فهم فرق أصناف، بينهم في أحوالهم اختلاف فمنهم مؤمن وفاسق ومشرك ومنافق، وقاتل وقاذف وسارق، وتنزيل الآية فيما سألت خاص غير عام، لأنه ليس كل من يسود وجهه يقال له: كفرت بعد الإيمان، لأن في النار مِن فرق الكفار من لم يكن مؤمنا قط في دنياه، ولم يزل على كفره فيها وعماه، فكيف يقول لأولئك: ? أكفرتم بعد إيمانكم ? [آل عمران: 106] ؟! أليس هذا عندك من أزور الزور وأبهت البهتان ؟! وابيضاض الوجوه هنالك فإنما هو سرورها وبهجتها، واسوداد الوجوه إنما هو حزنها وحسرتها. والقول في هذا يومئذ من القائلين، فإنما هو لمن كفر بعد إيمانه برب العالمين.(2/500)
91- وسألت: عن قوله: ? لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ? [آل عمران: 154] ؟
والكتاب - رحمك الله - فقد يكون من الله، عَلِمَ ويكون إيجابا من الله، فكتب في هذه الآية عليهم، إنما هو علم منهم وفيهم، وليس معنى كتب يكون معنى فُرض وُوُجِد فيما ذكر من هذه الآية ومثلها، ولكنه خبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها، وقد قال غيرنا من إخوانك، بغير ما قلنا به في الآية من جوابك، فأما [ما] يقول به من ليس يعلم، فليس يسع مؤمنا به جواب ولا تكلُّم.
92- وسألت: عمن ? يتخبطه الشيطان من المس ? [البقرة:275] وما المس ؟
فالمس هو اللمم، واللمم فهو الجنون.
وأما ما سألت عنه من التخبط، فما يعرف من خبط المتخبط، وهو الغشيان من خارج لا من داخل، وكما نعلم من مقاتلة المقابل، وإنما مثَّل الله أكلة الربا إذ مثَّلوا رباهم، وما حرم الله عليهم من الربا ونهاهم، بالبيع الذي فيه إرباء، وإنما هو أخذٌ بالتراضي وإعطاء، فقالوا: ? إنما البيع مثل الربا ? [البقرة: 275]، شبهوا ما لم يجعل الله متشابها، فشبهوا الحرام بالحلال، والهدى فيه بالضلال، فمثَّلهم الله في ذلك لما هم عليه من الجهل، بمن يعرفون أنه عندهم أنقص أهل النقص من أهل الجنون والخبل.
93- وسألت: عن قوله: ? إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ? [البقرة:282]، هل ذلك فرض عليهم لا يسعهم أن يتركوه ؟
فنعم هو فرض عليهم فيمن لم يأمنوا، وليس بفرض عليهم فيمن أَمِنُوا، فاجرا كان المؤتمن أو برا، أو موسرا كان الغريم أو معسرا.
94- وسألت: عن قول الله سبحانه: ? لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ? [آل عمران:178] ؟(2/501)
وقد نهاهم جل جلاله عنه، فالإملاء منه الإبقاء منه، وتأخير العذاب والنقم، فيما ارتكبوا من الجرم،.... كله وعنه وبما تولى الله منه، أتوا من الإثم والإسآءة ما أتوا، وعصوا الله بما عصوا، فاعلم أن الإملاء نعمة من الله وإحسان، وازدياد الإثم منهم فإسآءة وعصيان، فمن الله سبحانه الإملاء، ومنهم الاعتداء، وتأخيره سبحانه لإنزال العذاب بهم، إنما هو ليزدادوا إثما بكسبهم، ليس لما يحبون من سرورهم، ولا لما يريدون من أمورهم، ولكن ليزدادوا بالبقاء والإملاء إثما، ولأنفسهم بما تركوا من البر ظلما، وإن كان ما تركوا من الهدى - وإن لم يفعلوه - ممكنا، كان ما تركوا من الهدى في نفسه حسنا، ولهم لو صاروا إليه - ولن يصيروا - منجيا، وكان كلهم لو أتاه بإتيانه له مهتديا، فالإملاء والإبقاء هو من فعل الله بهم، وازدياد الإثم فهو من كسبهم هم وفعلهم، وما يمكن من الإملاء من الأمور، فسواء في المكنة من البر والفجور، فلما آثروا هواهم، على ما يمكنهم من هداهم، جاز أن يقال: أُملوا ليزدادوا برا وهدى.
ومثل ? ليزدادوا إثما ? هو قول الله تبارك وتعالى: ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ? [الذريات: 56]، وهم وإن خلقهم الله ليعبدوه، فيحملون لغير العبادة إن أرادوه، والعبادة لله وخلافها إنما هو فعل منهم، إذا فعلوه [ نُسِبَ ] إليهم ولم يزل عنهم، وكل ذلك ففعل لهم وصنع، والله هو الصانع لهم المبتدع، ففعل الله بريء من فعلهم، فيما كان من الإملاء لهم، فعل الله تأخير وإملاء، وفعلهم ازدياد واعتداء، وبين ذلك فرق، لا يجهله إلا أحمق.
95- وسألت: عن قول الله سبحانه: ? لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما، وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ? [النساء: 5ٍ] ؟(2/502)
فمعنى تؤتوا: هو أن تعطوا السفهاء، وإن كانوا لكم أبناء وآباء، يجب عليكم رزقهم وكسوتهم فيها، وأمرهم أن ينفقوا عليهم ويكسوهم منها، ويقولوا لهم من القول معروفه وحَسَنه، وهو السهل من القول وليِّنه، ونهاهم أن يعطوا سفهاءهم أموالهم، التي جعلها الله قياما لهم، والقِيمَ هو المعاش واللباس، الذي به يبقى ويقوم الناس، فتهبوها لهم أو تأمنوهم فيها، وتجعلوا لهم سبيلا إليها، فيفسدوا معاشهم منها عليهم، إن أعطوهم إياها وسلموها إليهم، وأمرهم ألا يؤتوا أموالهم التي جعلها الله لهم إلا أن يأنسوا [ منهم رشدا ]، ومعنى يأنسوا : فهو أن يروا منهم رشدا، فيدفعوها إليهم، ويُشهدوا بدفعها عليهم، فكيف يجوز أن يؤتي أحد ماله أحدا، إذا كان في أرض الله أو لنفسه مفسدا، وقد نهى الله عن ذلك نظرا من الله للعباد، وحياطة منه برحمته لأرضه وخلقه من الفساد.
96- وسألت: عن: ? ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ? [النساء: 6] ؟
فهو: ومن كان لليتيم وليا فليستعفف، معناها: فليعف عن أن يأكل من مال اليتيم شيا، ومن كان فقيرا يعني معسرا فليأكل من مال اليتيم بالمعروف، يقول بأمر مقدر موظوف، ليس منه فيه إسراف، ولا بمال يتيمه إجحاف.
97- وسألت: عن: ? ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ? [النساء: 19] ؟
ووراثتهم كرها، هو: أن يمسكهن الأزواج رغبة في الميراث وشَرَهاً، لا رغبة فيهن، ولا محافظة عليهن، وجعل الله ذلك عليهن اعتداء، وبهن إضرارا. وقد قال الله تبارك وتعالى: ? ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ? [البقرة: 231].
98- وسألته: عن: ? وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ? [النساء: 92] ؟(2/503)