وأما مكر الله واستهزاؤه، فهو: استدراج الله وإملاؤه. ومَكْرُ من كفر بالله ربه، فإنما هو احتياله على الذين يكذبونه في وحيه، واستهزاءُ مَن كفر بالحق والمحقين، فيشبِّهه كذبا في القول والفعل بالمتقين.
فمتى قيل أبدا للمبطلين: خَادَعُوا ومكروا، فإنما يراد به فيهم كذبوا وكفروا، وأظهروا خلاف ما أبطنوا وأسروا.
ومتى قيل لهم استهزأوا وسخروا، فإنما يراد به فيهم تلعبوا وبطروا، [و] في ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ? وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم، وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ? [الأنفال: 61 – 62].
يقول سبحانه: وإن يريدوا أن يخدعوك، فيمكروا بالكذب فيما أعطوك، فيعطوك المسالمة كذبا، ويكذبوك بالمخادعة تلعبا، فحسبك في ذلك بتأييد الله ونصره، وبما ألَّف من قلوب المؤمنين على دينه وأمره، وإذا كان استهزاؤهم ومكرهم إنما هو إخفاؤهم ما يخفون، وسترهم من أمرهم لما يسترون، وأمور الله أستر وأبطن، وأخفى عنهم وأَكَنُّ، وذلك فقد يكون مكرا من الله بهم واستهزاء، واختداعا من الله لهم صاغرين وإخزاء، وبذلك كان الله خادعا لمن خادعه لا مخادعا ولا مخدوعا، وكان قلب مَن خادعه سبحانه من العلم بمكر الله به مقفلا مطبوعا، ليس فيه لله حذار، ولا عن منكره ازدجار، حتى يدهاه من أخذ الله دواهيه، ولا يوقن أن شيئا منها يأتيه، كما قال سبحانه: ? ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ? [آل عمران: 54] وقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: ? ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ? [النمل: 50 – 51].
79- وسألت: يرحمك الله عن: ? يعلمون الناس السحر ? [البقرة: 102] وعن السحر ؟(2/494)
والسحر أمر لا يكون ولا يواتي أهله، إلا بعظيم من الكفر والأئمة فيه والمعلمون له، فهم الشياطين، الكفرة الظالمون، ولذلك يقول منهم مَن علَّمه، مَن يريد أن يتعلمه، لا تكفر ليكفر إذا كفر بإقدام وتصميم بعد النهي بالتوقيف، والإبانة للكفر والسحر والتعريف، فكفرُ أهله بعد المعرفة بالتصميم ككفر إبليس فيما صمم من الكفر بالسحر.
وقوله: ? وما أنزل على الملكين ببابل ? [البقرة: 102] فقد يكون نَفيًا لا أن يكون السحر أنزل عليهما، وإكذابا لمن نسب السحر من اليهود إليهما، ? وما أنزل على الملكين ? فقد يكون في النفي للسحر عنهما في النفيان، كقوله سبحانه في النفي: ? وما كفر سليمان ?، و ? هاروت وماروت ? [البقرة: 102] فقد يقال اسمان نبيطان، معروف ذلك فيما يستنبط من اللسان، لأن ماروتَ القريةِ: في لسان النبط، هو القرية وواليها، وهاروتَ القريةِ فيما نرى هو: مستخرجها وجانبها، ولو كان من يعلم السحر لكان من الملائكة إذاً مَن قد كفر، ولما صح قوله سبحانه فيهم: ? بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ? [الأنبياء: 26 – 28]، وقوله سبحانه: ? لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ? [النساء: 172] وقربتهم هي: منزلتهم عند الله في الزلفى والمكان، وبرآتهم كلهم عند الله من العصيان، ولو كان منهم صلى الله عليهم من عصى بكفر أو غيره، لذكره الله بعصيانه كما ذكر إبليس في تنزيله، أما تراه كيف نحَّاه لمعصيته عنهم، ولم يجعله - إذ عصى - منهم، فقال فيهم: ? وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر به أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ? [الكهف: 50]، وذريته فإنما هم أمثاله وقبيله، وفي إبليس وقبيله، ما يقول الله سبحانه في تنزيله: ? إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ? [الأعراف:27].(2/495)
80- وسألت: عمن يسكن في الهواء بين الملائكة والإنس ؟
والجن والإنس فهما كما قال الله الثقلان، فالملائكة صلوات الله عليهم سماويون، والإنس كلهم جميعا أرضيون، والجن بين السماء والأرض هوائيون.
81- وسألت: عن آية القصاص هل يقتل فيها الحر بالعبد، وهل تجب الدية في شيء من العبد ؟
وقد فصل الله فيما سألت عنه في ذلك من أمره، بقوله وعند ذكره: ? الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ? [البقرة: 178]، فجعلهم في القصاص أصنافا مختلفة شتى، وعلى ما ذكر الله من اختلافهم وشتاتهم، اختلفوا باجتماع في دياتهم، فدية العبد على قدر قيمته، والمرأة مخالفة للرجل في ديته، وهذا كله مجتمع عليه، لا أعلم أحدا يقول بخلافٍ فيه.
واختلافهم - رحمك الله - في الديات، دليل على اختلافهم في القَوَد والجراحات، وما اختلف من ذلك فيه فليس بواحد، والخلاف فبيِّنٌ بين الحر والعبد، ولا يحكم في المختلِف بالاستواء، [إلا] من لا علم له بالحكم في الأشياء، ولا قود ولا قصاص بين حر وعبد، وليس أمرهما في كثير من الدين بواحد، حد العبد في الزنا وغيره ليس بحده، والسيد في كثير أموره فليس كعبده، وكذلك المرأة في كثير أمورها فليست كالرجل، ولو كانت كهو لما كان له عليها من الفضل، ما ذكر الله سبحانه في قوله: ? وللرجال عليهن درجة ? [ البقرة: 228]، وكفى بهذا في اختلافهما بيانا وحجة.
فإن قتل القاتل عبدا أو امرأة عمدا، وكان بقتله إياهما في أرض الله مفسدا، قُتِلَ إذا صح فساده عند الإمام صاغرا، ولم يحرز قاتلَه من القتل أن يكون حرا، لقول الله سبحانه: ? من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ? [المائدة: 32]، وفي الناس الحر والعبد جميعا معا، فأحل الله من قتل الأنفس بالفساد في أرضه، ما أحل من قتلها بترك التوحيد ورفضه.(2/496)
فأما من قتل عبدا أو امرأة، مغاضبا أو فلتة أو حصره، فليس كمن قتلهما مفسدا، وكان بفساده في أرض الله متمردا.
وأما ما سألت عنه من قول الله سبحانه: ? فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ? [البقرة: 178]، فهو العفو من الطالب عن الدم إلى الدية، إذا كانت نفس الطالب والمطلوب بذلك راضية، وهذا إذا تراضيا به، فما لا يقول أبو حنيفة وأصحابه بغيره، فجعل الله لرأفته ورحمته بخلقه العفو عفوين عن الدية والدم جميعا، وعفوا عن الدم إلى الدية رأفة منه وتوسيعا، وأمر الله تبارك وتعالى الطالب بحسن الطلب فيها والمتابعة، وأمر المطلوب بحسن الأداء لها زيادة من الله في الرحمة وتوسعة.
82- وسألت: عن قوله: ? فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا ? [البقرة: 185] ؟
فهو: من حضر الشهر فلم يغب عنه، فليصم في حضوره له ما ألزمه الله فيه منه، والمشاهدة له فهو أن يحضره كله، ومن شهد بعضه فلم يحضر كله، والشهر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ثلاثون، وتسعة وعشرون )، وليس الهلال والرؤية بشهر تام، ولو لزم من حضر الرؤية الصيام، لكان ذلك لأهله إضرارا، وعاد تيسير الله فيه إعسارا.
وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر وغير بدر، فصام في سفره وأفطر، ولو لزم من رآه وأهلَّه في أهله المقام لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( عمرةٌ كحجةٍ، العمرةُ في رمضان )، ولما جاز لأحد من الناس فيه اعتمار.
83- وسألت: يرحمك الله عن: ? ويسألونك عن المحيض ? [البقرة: 222] ؟(2/497)
فهو المحيض الخالص من دم الحيض، فليس لأحد أن يصيب منه وفيه، ما ينجسه ويؤذيه، فأما دم الاستحاضة، فدم ليس بمحيض كدم الحيضة، فدم المحيض دم خالص ليس فيه كدرة، ودم المستحاضة دم فيه كدرة وصفرة، وبينهما عند من تقعدهما من النساء فرق، لا يجهله منهن إلا الحمق، فإذا طهرت المرأة من الحيض وهو ما قلنا به من الحيض لزمها وحل منها، ما يلزم ويحل من المرأة النقية المتطهرة من حيضها.
84- وسألت: عن قول الله سبحانه: ? الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ? [البقرة: 229] ؟
فإن سرح فهو للثلاث التطليقات تمام، وإن أمسك فالثالثة الباقية من الطلاق كان الإمساك والمقام.
85- وسألت: هل يلزم الطلاق لغير سنة، أو على خلاف ما أمر به في الطلاق من العدة ؟
يلزمه منه ما ألزم نفسه، وإن هو عصى فيه ربه، ولو كان لا يلزم في ذلك شي، كان الأمر فيه سواء والنهي، ولم يجر فيه ولا تجدوه، إذا لم يكن فيه طلاق ولا مضرة.
86- وسألت: عن القَرو ما هو ؟
فهو الحيض فليس بأطهار، وإنما القُرو الجمع للحيض من التدفق والانتشار، مما يجمعه به النساء من الخِرَق، يتنطقن به لذلك من التنطق، وكذلك تقول العرب في الأقراء، إذا أرادت أن تأمر أحدا بجمع ما في إناء أو سقاء: أقر لنا من الماء، في الحوض أو في الإناء، وبات فلان يقري من مائه، في حوضه وسقائه.
87- وسألت: عن: ? لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك ? [البقرة: 233] ؟
وقد قال بعض الناس في ذلك وعلى الوارث في ذلك ألا يضار، وليس قول من قال بذلك حجة فيما قال ببينة ولا إسفار. وقال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيرهما على وارث اليتيم إذا لم يكن له مال الاسترضاع له والكسوة والإنفاق، والوارث الذي أمر بالنفقة، فهو من يرث اليتيم إن مات بالقرابة، وليس هو بالزوج ولا الزوجة.
88- وسألت: عن تمتيع المطلقات هل وجوبه كوجوب الفرائض الواجبات ؟(2/498)