قيل: فلا يخلو هذا من أن يكون أمر به في الفريضة أو النافلة، لما فيه من ذكر الله بهذه المقالة، لما فيها لقائلها من الفضل المبين، ففي ذلك ما قلنا أدل الدلائل باليقين، إن كان في النافلة يقال ما تدرك به وتنال ؟ ولما فيه من ذكر الله ذي الجلال، وكان تسبيحه بذلك للنافلة من الاكبار له والاعظام، فالفريضة الواجبة أولى، إذا كان ذكر الله بها أفضل فضلا، وكانت الصلاة إنما فرضت لذكره، ولما فيها من إجلال أمره، وقد قال الله في الصلوات نفسها، وما جعله الله من ذكره بها: ? فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ?[النساء: 103]. فأمر سبحانه بذكره بعدها، كما أمر بذكره فيها ومعها. وقال سبحانه: ? يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ?[ الأحزاب: 42]، فكفى بهذا وبغيره من أمثاله في كتاب الله على ما قلنا دليلا، والحمد لله كثيرا، على ما نوَّر من أموره تنويرا.(2/474)


فأما ما يذكر عن عمر من أنه كان يقول: سبحان ربي العظيم الأعلى، فلست أرى - والله أسأل التوفيق - أن يُسبَّح به مَن صلى، لأنه قد يقول مثل هذا ويفعله، من يجحد الاسلام ويعطله، ممن يثبت مع الله إلها آخر، وإلهين وأكثر، ثم يزعم أن الله لا شريك له أعظم وأكبر من الخلق من الشركاء، فيقول: ربي الأعظم الأعلى، هو الذي خلق الأرض والسماء، وهو إلهنا الأكبر الذي لا يُرى، ولنا آلهة سواه أخرى، لا تخلق شيئا ولا تنسى، كما يخلق ربنا الأعلى، وإنما نعبدهم معه، لنتقرب بعبادتهم عنده، وليكونوا شفعاء، في حياتنا هذه الدنيا، ولا يوقنون ببعث ولا حساب، ولا بمرجع إلى عقاب ولا ثواب، كما قال جل ثناؤه :? ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ?[لقمان: 25، الزمر: 38]. وقال سبحانه لرسوله :? قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ?[الزمر: 38]. وقال :? ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ?[الزمر: 3].
وأما التكبير في كل ركوع وسجود، قبل ما سنذكره إن شاء الله من التشهد، فتقول كلما ركعت، أو خفضت أو رفعت: الله أكبر، فإذا أنت كبَّرت وقلَّلْت بعد أو كثَّرت، فقد أديت في التكبير ما [ به ] أمرت، وذلك فهو - إن شاء الله - من الخشوع، إلا في رفعك لرأسك - ولا قوة إلا بالله - من الركوع، فإنك تقول: سمع الله لمن حمده، وتأويلها: قَبِلَ الله ممن شَكَره فعبده.(2/475)


وأما ما جاء في التشهد والذكر والدعاء، من القعود في كل ركعتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وما يلزم كل مصل في صلاته من القعود، بعد الفراغ من كل ما فيها من السجود، فمن دلائل ذلك وعلمه، وما دل الله به عليه من حكمه، قوله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله، فيمن كذب بها وتولى: ? أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ?[العلق: 9 – 10]. ثم قص - سبحانه - مِن ذِكره، وما وعد من النكال في خلافه لأمره، فيما نزل في هذه السورة من وحيه، وما ذكر سبحانه عن الصلاة من نهيه، ثم قال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله: ? كلا لا تطعه واسجد واقترب ?[العلق: 19]. وقال تعالى: ? فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب ?[الانشراح: 7 - 8]. فمن الاقتراب، والرغبة والانتصاب، القعود بعد الفراغ في كل صلاة، للطلب إلى الله والرغب والمناجاة، ومن ذلك ما جاء من التشهد، وهي الشهادة لله بالتوحيد من كل مُوَحِّد، والشهادة للرسول صلى الله عليه، بما جعل الله من الرسالة فيه، والذكر بعدُ لله بما حَضَرَ، والدعاء لله بما تهيأ وتيسر، فأي ذلك مما قال به قائل، أو سأل الله به في صلاته سائل، أدى ما يلزمه ويجب، ونقول - إن شاء الله - في ذلك بما يستحب، مما ذكر عمن مضى، وكل ذلك وإن اختُلف فيه فهو لله رضى.
فمن ذلك ما جاء عن زيد بن علي صلوات الله عليه، وأيضا ما ذكره عن علي ابن أبي طالب صلوات الله عليه، بسم الله وبالله، والحمد لله، والأسماء الحسنى كلها لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله، بما يمكن، ويحضر مما يستحسن، من قول كريم، أو ثناء أو تعظيم.(2/476)


والتشهد والذكر في كل ركعتين من كل صلاة، كالتشهد والذكر عند الفراغ من جميع حدودها المسماة، من القيام والافتتاح والتكبير والإقتراء والركوع، والتسبيح وذكر الله والخشوع، وإذا أمر الله بالذكر والدعاء في غير الصلاة ووكَّده، فأمره سبحانه بذلك في الصلاة أقرب إليه وأوكد عنده.
وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما يقول تبارك وتعالى: ? يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ?[الأحزاب: 42]. ويقول سبحانه: ? قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًّا ماتدعوا فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ?[الإسراء: 110]. ويقول سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ? إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما?[الأحزاب: 56].
وفيما يقول تبارك وتعالى في الجلوس والمقعد، بعد الصلاة للذكر والتشهد: ? فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا ?[النساء: 103]، فأمرهم بذكره في القعود كما أمرهم إذا كانوا ركعا وسجودا، وفرضُ الصلاة الأول فإنما كان ركعتين بما كان فيهما من القيام والركوع والسجود، فأقر فرضهما كله على ما كان عليه من الركوع والسجود والقعود، وزيد فيها، ومنها وعليها، في كل أربع ركعتين آخرتين، ولذلك لزم القعود في كل ركعتين. وسنذكر - إن شاء الله - التشهد للآخرتين، فيما جاء عن النبي صلى الله عليه، من القول عنده وبه وفيه.(2/477)


باب التقصير
وقلنا: تقصر الصلاة للمسافر، من كل بر وفاجر، لأن فرضهما المقدم كان في السفر والحضر على ركعتين، وقبلنا ذلك وأخذنا به لما فهمناه منه عن كتاب الله المبين، ولم نأخذ ذلك عن روايتهم، وإن كانوا قد رووه، ولم نقبله عنهم - والحمد لله - وإن رأوه، قال الله لا شريك له فيما قلنا فيه من ذلك بعينه، وفيما فَهِمنا عن الله بالكتاب من تبيينه، فيه نفسه لرسوله، صلى الله عليه وأهله: ? وإذا ضربتم في الأرض - والضرب هو: المسافرة إليها - فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبينا ?[النساء: 101]، فأبان في هذه الآية نفسها قصرها في السفر تبيينا، ودل على أن فرضها فيه ركعتان، وأنهما عليهم كلما ضربوا في الأرض ثابتتان، قصرُها في هذه الآية إنما هو تنصيفها إذا كانوا في حرب مع الإمام، أو مُجَمِّعين جميعا منه في مقام، ألا تسمع كيف يقول تبارك وتعالى لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ? وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فإذا سجدوا... ?[النساء: 102]. يقول سبحانه: فإذا أتموا ركعة وسجدوها، فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل فلتصل معك الركعة الثانية بعدها، وكل طائفة من الطائفتين فقد قصرت صلاتها عن أن تتمها، إذ لم تصل مع الرسول صلى الله عليه إلا بعضها، فهذا هو التقصير لما لم يكونوا يقصرون، فإذا أمنوا أتموا مع الإمام ركعتين ركعتين كما كانوا يتمون. وفي ذلك ما يقول سبحانه :? فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لكم تكونوا تعلمون ?[البقرة: 239]. يقول سبحانه أتموا مع رسولكم إذا أمنتم ولا تقصروا، فالاتمام بالإمام هو ما به أمروا، فكانت صلاتهم الظهر والعصر ركعتين كما ترى في السفر، وكان الأمر على ما قلنا في الإمامة من القصر، وأقرت الصلاة على ركعتين في السفر، وزيد عليها فأتمت أربعا في الحضر، فليس لفاجر ولا بر، سافر في خير(2/478)

181 / 201
ع
En
A+
A-