وما قلنا به منه، فإنما أخذناه من الكتاب وقلنا عنه، لقول الله جل ثناؤه فيه، عند دلالته برحمته وفضله عليه، عند ذكره تبارك وتعالى وما أمر به فيها، من الافتتاح والتكبير قبل القراءة التي أمر الانسان بها: ? ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا، وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ?[الإسراء: 110 – 111]. فأمره سبحانه كما ترى، إذا قام للصلاة وانتصب قبل أن يقرأ، أن يقول بافتتاحه لصلاته، وما استدللنا عليه بتبيينه ودلالته، ثم أمره بالتكبير ودلالاته. فإذا فرغ من قول ما ذكرنا في الافتتاح، وكان [في] ذلك - إن شاء الله - لمن تفهمه أوضح الايضاح، لأن الله سبحانه قال لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله. قل ثم كبِّر، فالأمر بالقول قبل أن يكبر، فإذا كبرَّ فحينئذ دخل في الصلاة، وفيما أمر من القرآة، والافتتاح كما ترى قبل التكبير، ثم القراءة بعدُ بما تيسر من التنزيل، فإذا قرأ من القرآن في صلاته بقليل أو كثير، بعد الافتتاح وما بعده من التكبير، فقد أدى ما أُمر به من القرآة، قل أو كثر في الصلاة.
ومن لم يفتتح ويكبر، ويقرأ ما تيسر من القرآن فقد قصر فيما أُمر، وعليه أن يعود حتى يأتمر لله في ذلك كله بأمره، ويصير فيه أجمع إلى ما أمر الله به، والحمد لله الذي به هدى من اهتدى، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لما اختُلِفَ فيه من الهدى، وحسبنا الله وبدلائله من كل دليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/469)


[ السكون والخشوع في الصلاة ]
وعلى من ائتمر في الصلاة لله بأمر[ه]، تسكين أطرافه وخفض بصره، وترك الالتفات فيها والتلعب، والخشوع فيما هو فيه بها من القيام والتَّنصُّب، فإنه منتصب فيها بين يدي الله فعليه فيها الخشوع والتذلل والترتيل فيها جهده بالقراءة، فإنه بلغني أن الله سبحانه قال لموسى في التوراة: ( يا موسى قم بين يدي مقام العبد الذليل، يا موسى إذا قرأت التوراة فاقرأها بصوت حزين ). جعلنا الله وإياك من المطيعين، وفيما أمرنا وإياك به من الصلاة له من الخاشعين، فإنه يقول سبحانه :? وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ?[البقرة: 43]. ويقول سبحانه :? واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ?[البقرة: 45].(2/470)


[ شروط الإمام ]
وعلى كل مؤمن صلى، أن لا يصلي مع من لا يتولى، ولا يتخذه في صلاته له سترا، لأن الله لم يجعل له زكاة ولا طهرا، وليس لأحد أن يستتر بغير طاهر، من كل ما يستتر به ساتر، وإذا فسد أن يصلي للدنس والنجس إلى قبلة أو حجر، فكيف يجوز أن يصلي خلف ظالم أو فاجر ؟! وهو أدنس من القبلة والحجر دنساً! وأنجس مما نجس نجسا، وكيف يُؤتم ويقدم، مَن يتعدى ويفجر ويظلم ؟‍ وهو عند الله مهان ملعون، ولله بتعدِّيه وظلمه عدو مبين، والتقدمة والإمامة، تشريف وكرامة، وصلاته ووضوءه وطهارته غير مقبولة، والمغفرة من الله بجرمه ما أقام عليه غير مأمولة، لأنه يقول سبحانه :? إنما يتقبل الله من المتقين ?[المائدة: 27]، وإذا لم يتقبل منه وضوءه فليس من المتطهرين.
وإذا لم يكن متطهرا ولا زكيا نقيا، فليس لأحد أن يصلي معه ولا يكون[به] في صلاته مقتديا، وقد وضعنا لهذا في كتاب الطهارة، حججا فيها منه بيان وإثارة، وفيه إن شاء الله ما شفى وكفى، لمن كان للحق من نفسه منصفا.
وفي القيام في الأمر المفروض الصلوات، لا فيما يتقرب به إلى الله من النوافل المتطوعات، ما يقول جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه: ? فإذا أمنتم ?[البقرة: 239 ]. يعني: سبحانه: من الخوف فكنتم آمنين: ? حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ?[البقرة: 238]. وفي الافتتاح للصلاة والتكبير، وفي التخفيت من المخافتة بالصلاة والتجهير، بعد افتتاحها وتكبيرتها الأولى، ما يقول فيها سبحانه لمن صلى: ? ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ?[الإسراء: 110]. يقول سبحانه اطلب من القول بين الإخفات والجهر قبيلا، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه في الصلاة، بالواسط بين الجهر والاخفات من القرآة، اختيارا منه سبحانه في الأشياء للأوساط، على التقصير فيها والإفراط، لأن الاخفات فيها شبيه بالسر والضمير المكتوم، والاجهار الفاحش من الأصوات شبيه بالتنكير المذموم.(2/471)


ألا تسمع لما ذكر الله سبحانه من قصص حكمة لقمان، وما نزل الله لرضاه بها منها في منزل القرآن، إذ يقول لابنه، فيما يأمره به :? واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ?[لقمان: 19]. فلما كان رفع الصوت في غير الصلاة من التنكير، كان في الصلاة أفحش وأنكر، وفيما أمر الله به منها أكبر.
وفي ركوع الصلاة وسجودها، بعد الذي قدمناه من حدودها، ما يقول سبحانه: ? يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ?[الحج: 77].
وفيما قلنا من تسكين الأطراف فيها، وما أمر الله به من الخشوع والإقبال عليها، ما يقول سبحانه: ? قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون ?[المؤمنون: 1 - 2]. ومن يشك في أن من الخشوع في الصلاة تسكين العيون وغضها ؟+ وكذلك تسكين الأيدي وحفظها، فذلك من الخشوع فيها، ومن الإقبال عليها، وما قلنا في ذلك ومن دلائله، ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، من أنه قال: ( ما بال رجال يرفعون أيديهم إلى السماء في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس، لئن لم ينتهوا ليفعلن الله بهم وليفعلن )، لا يجهل ذلك من رواتهم إلا متجاهل. فأمرُ الصلاة كلها والحمد لله، سكون وخشوع لله.(2/472)


ثم قال تبارك وتعالى في تسبيح ركوعها، بعد الذي بيَّنه وفصَّله من أمر خشوعها، أمرا منه بَيِّنا، وحكما متقنا، ? فسبح باسم ربك العظيم ?[الواقعة: 73، 96، الحاقة: 52]. فوقَّفَنا سبحانه من التسبيح على صراط مستقيم. ثم قال سبحانه في تسبيح السجود، بقول ظاهر بيِّنٍ محدود: ? سبح اسم ربك الأعلى ?[الأعلى: 1]، دلالة منه لكل من صلى، على ما يقول عند الركوع والسجود في صلاته، رحمة منه وتخييرا وتوفيقا لهم بدلالته، فيسبح للركوع سبحان الله العظيم، القليلُ من التسبيح بذلك في الأداء كالكثير، فمن زاد واستكثر فقد استكثر من الخير، وله في الاكثار منه بإكثاره الثواب الكثير، ومن اقتصر وأقل، كان مؤديا لما حُمِّل، من التسبيح لله في صلاته، ومستدلا عن الله فيه بدلالاته. وتسبيح السجود بعد الركوع: فسبحان الله الأعلى، فمن سبح بذلك في سجوده أجزاه مكثرا أو مقلا.
فإن قال قائل: قال الله: ? سبح ? ولم يقل في صلاتك، وهذا غير ما استدللت به من دلالاتك ؟!(2/473)

180 / 201
ع
En
A+
A-