فرض عليهم ثلثه، ومنهم من قال: نصفه، ومنهم من قال: ثلثيه، جهلا بحق الله ومخالفة للعلم وإدعاءً عليه.
? وناشئة الليل ?. فهي: الليل كله، وهي آخر الليل وأوله، فكان هذا على ما قلنا أيضاً دليلاً، لقول الله سبحانه :? إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً ?. ودل أن صلاة الليل قراءة مجهور بها، يقول:? ورتل القرآن ترتيلاً ?. والترتيل، فهو: الجهر والتنفيل، فأما هَذُّ القرآن فيها ونثره، فإنا لا نأمر به ولا نستحسنه، لما ذكرنا من قول الله سبحانه. وقول رسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ( لا تنثروا القراءة نثر الدقل ). فنحن لا نأمره بذلك في فريضة ولا تنفل.
والدليل على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن هذه الصلوات في الليل فرض لا نافلة، وأنها فريضة من الله واجبة لازمة، قوله سبحانه:? والله يقدر الليل والنهار، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ?[المزمل: 20]. فدل قوله سبحانه أقيموا الصلاة، وتوكيده فيها - جل ثناؤه - القراة، على أن ذلك فرض لا نافلة، وأن ما أمر الله فيها فريضة لازمة، إذ لم يذكرها عن رسوله تنفلا، ولا منه صلوات الله عليه تطوعاً، ولا زيادة على ما يجب ويحق فرضا من الصلاة عليه، كما ذكر النافلة وما جعل له بها وفيها من القربة إليه، فقال سبحانه: ? ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا ? [الإسراء: 79]. فجعل تبارك وتعالى بين أمره بالفريضة والنافلة والإباحة فصولاً بينة وحدوداً.
فإن قال قائل فأين الأمر بالإباحة، التي قلتم والفصل بين الأمور الثلاثة ؟
قيل له: قول الله تبارك وتعالى:? وإذا حللتم فاصطادوا ?[المائدة: 2]. فهذا هو الإباحة والتوسعة، لا من الفرائض والنوافل المتطوعة.(2/459)
[ الطهارات ]
وبعد الذي قلنا به من الأوقات، القول - ولا قوة إلا بالله - في الطهارات، فبيان ذلك والحمد لله عن كتاب الله بيان ليس فيه التباس ولا أفانين كما فننوها كثيرة، لا يعرض فيها - لمن أنصف من نفسه - غلط، ولا تجور بقسط ما حكم الله منها فرط، بل قصدها قريب منير، وأمرها كلها خفيف يسير، لا يعسر شيء منها على مكلف، ولا يدخلها شيء من التقصير ولا السرف.
فهي خمس طهارات: أُصول النفاس والطمث والاجتناب، فواحدة وهي الغسل بالماء أو التيمم بطيب التراب، فأي ذلك الماء اغتسل به المغتسل كله، فقد طهَّره - من نفاس كان أو طمث أو اجتناب - غسلُه.(2/460)
[ حد الماء المطهِّر ]
كَثُرَ ما تُطُهِّر به من الماء أو قل، إن وقع عليه اسم تَطَهَّر أو اغتسل، فلا نجد في ذلك من الماء حداً محدوداً، ولا نوجب عليه عدداً معدوداً، لأن الله جل ثناؤه لم يحد في ذلك حداً فنحده، ولم يوجب عليه من العدد عدداً معلوماً فنعده، ولم يجعل لمن اغتسل أنه يقصر عنه، وأن ينقص في طهارته شيئا منه، وإنما جعلناه كذلك لأن الله سبحانه قال:? ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ?[النساء: 43]. وقال:? وإن كنتم جنبا فاطهروا ?[المائدة: 6]، ولم يقل قولا وأكثروا، فاقتصرنا من ذلك على ما اقتصر، وقلنا لمن وجب عليه الغسل اغتَسِل وتَطَهَّر، وكذلك قلنا لمن طمث من النساء، وقلنا من بعدهن للنفساء. لأن أقل حكمها، فيما تريق من دمها، أن الحيض منها والطمث، لا يقول بخلاف ذلك إلا جاهل عَبِث، لأن الله سبحانه قال فيهن، وفيما حكم من الغسل عليهن: ?يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ?[البقرة: 222].
والاجتناب فهو ما لا يُجهل - والحمد لله - من الانزال والامناء، فمتى صار إلى ذلك صائر فهو جنب باحتلام كان ذلك أو بمداناة النساء.
وعلى كل مغتسل من هؤلاء يغتسل، من الوضوء معه مثل الذي كان قبل الاغتسال يفعل، لا يزيل عنه فرض الوضوء كما فرض الغسل، فهما واجبان على كل من اغتسل.(2/461)
[ التيمم ]
فمن لم يجد ممن سمينا ماءً يطهره، تيمم صعيدا طيبا لا يستقذره، فيمسح بوجهه، ويديه منه، وكان مجزيا من ذلك أن يضرب بباطن يديه على الصعيد حتى يلصقا بترابه لصقا، ثم ينفضهما مصفوفتين نفضاً رقيقا، ثم يمسح بهما وجهه ولحيته وعنفقته وشاربه معاً، ويتبع بالمسح من وجهه أماكن الوضوء أولاً، ثم يضرب بيديه على الصعيد ضربة أخرى، ثم يعمل في بعضهما مثل ما كان عمل بهما، ثم يمسح بيسرى يديه على يمناهما، ويمسح بيمنى يديه على يسراهما، ويمسح كل واحدة من يديه إلى المرافق، فهو أحب إليّ لقول الله في غسلهما: ? إلى المرافق ?، وإنما جعل التراب لهما، بدلا من غسلهما، فيستحب أن ينتهي إلى منتهى الماء منهما، ولا يقصر بالتراب كما لا يقصر بالماء عنهما، وإن اقتصر مقتصر على المسح على اليدين إلى الرسغين، أجزأه إن شاء الله لأن الله جل ثناؤه لم يحدد التيمم للذراعين، كما حدد - تنزيلا - الغسل إلى المرفقين، إلا أن مسحهما كما قلنا عندنا أحوط، وأبعد أن يكون فيه لمحتفظ متنعم أو مسخط.
وأما الوضوء وما قيل به من تحديده، فلست أقول به ولا بشيء من تعديده، لأن الله تبارك وتعالى لم يحد منه عند أمره ما حد وا، ولم يجعل له في منزل كتابه من العدد ما عدوا، بل قَرَّب فيه سبحانه السبيل البيِّن اللائح، وأقام به لمن كلفه إياه الدليل المنير الواضح، فلم يلبسه بضروب التفنين، بل أناره سبحانه بمعلوم من التبيين، فقال سبحانه:? إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم، وأرجلكم إلى الكعبين ?[المائدة: 6]. فقال سبحانه اغسلوا، ولم يقل أكثروا وأقلوا، وكان فيما قال من ذلك أكفى الكفاية لنا، ولأولئك ولمن مضى قبلنا، الغسل مرة أو مرتين، اكتفاء منه سبحانه لنا ولهم بالتبيين، فمتى ما اغتسلنا، أكثرنا أو أقللنا، فقد - بِمنِّ الله - ورحمته أدينا، ما أوجب من الغسل علينا.(2/462)
[ مسح الرأس ]
ومتى ما مسحنا كل رؤوسنا، فقد أدينا مسحها بيقين من نفوسنا، ولا يعارضنا فيه شك ولا مرية، ولا تدخل علينا فيه شُبهة مُعشية، ومن مسح مقدم رأسه واحدة، فقد ثبت بأيقن اليقين عنده، أنه إنما مسح من رأسه بعضه، فهو لا يأمن أن يكون لم يؤد لله فيه فرضه، لأن بعض الرأس ليس بالرأس، كما بعض الناس ليس بالناس، وكذلك بعضك ليس بكلك، وكذلك ليس [ كلك ] ببعضك، وإنما قال الله لا شريك له: ? فامسحوا برؤوسكم ?، كما قال: ? فاغسلوا وجوهكم ?، وإن جاز مسح بعض الرأس، جاز غسل بعض الوجه للناس، وكان مَن غَسلَ بعضَ وجهه فقد غسل وجهه، كما كان مَن مَسحَ بعضَ رأسه فقد مسحه، وهذا من القول فقد يستبين فحشَه وقبحَه مَن وهبه الله رشده، وعرف حكمه فعَمَدَه.(2/463)