ولكل صلاة من صلاة النهار والليل وقت، والصبح فلها الفجر كله، قلنا وقت موقوت، وآخر كل وقت كأوله، وبعضه في أنه وقت ككله، لا تفاوت بينه في رضى الله وطاعته، ولا في ضعف أحد واستطاعته، وكذلك بلغنا أن بعض آل محمد كان يقول: ما آخر الوقت عندي إلا كأوله. وما القول في الأوقات - والله أعلم - عندي في الأداء في الفريضة إلا مثل قوله. فأما ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله إن كان صُدق عليه فيه ( إن أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله)، فليس على ما يتوهمه مَن جهل، أنه عفو عن ذنب عُمل ، فكيف وكلهم يزعم أن جبريل ومحمداً صلوات الله عليهما صليا فيه، وصارا منه ومِن فعلِه إلى ما صارا إليه، مع أنه لو كان ذنبا لمن فعله، لمنع المؤمن منه أهله، وإنما تأويل العفو منه فيما أمر الله من الوقت تخفيف الله ورحمته، وذلك فهو أيضا رضى الله ومحبته، وكلٌ والحمد لله إذ فعله جبريل ورسول الله صلى الله عليهما فرشدٌ، لا يلام عليه ولا يُذم فيه ممن فعله أحد. وهذه الأوقات فإنما هي لمن صلى وحده، أو كانت عليه أو شغلته من الأمور والأمراض مشغله، وأما أوقات المساجد لعمارتها، واجتماع أهلها فيها فآخره، فما ذكر للظهر من أن يكون ظل كل شيء مثله وما ذكر للعصر من أن يكون الظل مثليه، وما قبلنا به من هذا فأمر الله محمود بيِّنٌ فيه، وعلى قدر اختلاف الوقتين والفعلين، لأن أحدهما عمارة للمساجد، وذلك فليس كصلاة الواحد، والفرق في ذلك فبَيَّنٌ عند من أنصف ولم يَحِف، ولم يعتسف ولم ينحرف.(2/454)


وفي عمارة المساجد ما يقول الله سبحانه: ? إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ? [التوبة: 16]. وقال سبحانه: ? يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ?[الجمعة: 9]. وغيرنا - والله المستعان - فقد يقول في الأوقات بغير ما قلنا، ولا يقبل في ذلك وبيانه عن كتاب الله وتبيانه ما قلنا، غير أنهم جميعا، كلهم معا، إلا مَن جهل ففحش جهله، وقلَّ عند علمائهم علمه، يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( جمع في الحضر وهو مقيم من غير سفر، ولغير علة من مرض أو خوف أو مطر، بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء )، فكفى بهذا في الأوقات من نور وضياء.(2/455)


وقالوا: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر )، مع إجماعهم على: ( الجمع بين الظهر والعصر عند زوال الشمس بعرفة )، وإجماعهم على الجمع بين المغرب والعشاء متى شاءوا بالمزدلفة، مع أن قول أكثرهم أن من طهر من النساء من طمث أو نفاس قبل غروب الشمس بقدر صلاة خمس ركعات، صلت الظهر والعصر فَلِمَ أمروها بذلك إن لم يكن ذلك وقتا من الأوقات، إلا أن يلزموها لو طهرت بعد سنة ما فاتها من الصلوات، وكذلك يقولون فيما يلزمونها إن طهرت قبل الفجر، من صلاة المغرب والعشاء ما ألزموها من صلاة الظهر والعصر، مع ما ذكر عن ابن عباس، وغيره من علماء الناس، من أنهم كانوا يقولون: النهار كله وقت لصلاة النهار والليل كله وقت لصلاة الليل، وفي هذا على بيان ما قلنا ما لا يجهل مَن عقل من البرهان والدليل، مع ما ذكروا أيضا عن الرسول صلى الله عليه، فيما قلنا به من الأوقات وذهبنا إليه، من أنه: ( أخر عليه السلام ليلة من الليالي العتمة حتى ذهب من الليل نصفه أو أكثر، ثم خرج وقد ذهب أكثر الليل وأدبر، فقال ما أحد ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم، فصلاها في تلك الساعة بهم). ( وأن الشمس غربت وهو بسرف من طريق مكة فأخر صلاة المغرب والعتمة حتى صلاها ببطن الأبطح ). وبين سرف وبين الأبطح أميال عشرة. فكفى بهذا وغيره، وما ذكر بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي أنه كان عنده يوماً فزالت الشمس فقام من ساعته فصلى الظهر والعصر، ثم رآه في يوم من الأيام آخر، أخرها حتى قيل قد غابت الشمس عن سافل أُحُد وهو جبل مطل على المدينة، إذا غابت الشمس عن أعلاه غابت منها عن كل ناحية عالية أو باطنة، مع أن هذا ومثله فما لا نحصيه، ولا نأتي - وإن جهدنا بإحصاء - عليه، فنحمد الله كثيراً على ما مَنَّ به من هذا، لمن قَبلِ الهدى عنه وآتاه، ونستغفره لذنوبنا،(2/456)


ونستتره لعيوبنا، ونعوذ به من شرور أنفسنا وغيرنا، ونسأله لهداه حسن تيسيرنا، وحسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
ومن دلائل ما قلنا به في وقت صلاة الليل، ما دلنا الله سبحانه في سورة المزمل على ذلك من الدليل، قال تبارك وتعالى لرسوله، صلى الله عليه و[على]أهله :? يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً، إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً، إن لك في النهار سبحا طويلاً، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً ?[المزمل: 1 – 8].
فدل سبحانه فيما نزل من هذه الآيات، على ما قلنا به من الأوقات، فيما فرض في الليل من الصلوات.
ودل على ما يجب في الصلاة، من الذكر والتسبيح والقرآة، فلا يكون أبداً المزمل إلا مضطجعاً أو نائما، ولا يصلح أن يكون أبدا قاعداً ولا قائما.
والتزمل هو الاستغشاء والتدثر، والاضطجاع والنوم، وقد يكون في أحدهما المتدثر الذي يتزمل ويتدثر، ولا يكون أبدا إلا أول الليل وآخره، فجعل ذلك سبحانه كله وقتا لقيامه ولتأخره، فيه بصلاته واستيفائه إلا الأقل وهو ما اشتبه منه، فلم يتبينه من يريد أن يتبينه، فندري أفي الفجر هو أو في الليل، فليس لأحد أن يؤخر صلاة ليله إلى مثل ذلك الوقت من التأخير، لأنه ليس له أن يصلي إلا في وقت بيقين، وهو ما وضع الله في الوقت من التبيين، وليس يوجد أبدا وإن جهد وقت صلاة الليل ويبين، حتى يدركه العلم البتُّ واليقين، إلا سواد الليل وظلمته، ولذلك ما جعله الله وقتا لهما برحمته. وقال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله، : قُمهُ كله، إلا أقله. فنهاه عن القيام في قليله، وهو ما قلنا فيه بتفصيله، عندنا مما الله به أعلم، وما فهمنا فيه الفهم، لا يفهم فيه غيره، ولا نجد تفسيراً إلا تفسيره.(2/457)


ثم فصَّل ذلك سبحانه بأمره، فيما قلنا به من مفسَّره، بقوله: ? نصفه أو أنقص منه قليلا ?. يريد سبحانه قبله، ? أو زد عليه ?. يريد سبحانه بعده، فبيَّن سبحانه بقوله: ? الليل ? ما بين نصفه إلى أوله.
وبقوله: ? نصفه ? بعده ما بين نصفه إلى أقله، وتأويل: ? قم الليل ? إنما هو :في أي الليل شيت، فإنك لم تُنه عن الصلاة إلا في أقله كما نهيت، كما يقول القائل: قم ظهرا، وإنما يريد عند الظهر، وقم لحاجتنا فجرا، وإنما يريد عند الفجر، ألا ترى كيف يقول سبحانه: ? نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ?. يقول سبحانه: نصفه أو انقص منه، وهو ما قبل النصف، ? أو زد عليه ?. وهو ما بعد النصف، فبيَّن هذا الأوقات كلها، وكذلك قال في تبيينها، لرسوله، صلى الله عليه وآله :? إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وطائفة من الذين معك ?. وإنما أدنى من ثلثي الليل عند نصفه وعند ثلثه. كما [ لو ] قال قائل - سوى الله لا شريك له - لمن يريد أن يأمره ويستعمله: قم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. كان إنما يريد قم عندما أمرتك بالقيام عنده في وقته، ولا يريد أن يقوم ثلثه قائما على رجليه. وكما [لو] يقول قائل العامل من العمال، أو أمره في نهاره بعمل من الأعمال: اعمل كذا وكذا نهارا. فعمل ذلك في أي وقت شاء من نهاره، لكان قد أدى إلى مَن أمره ما يجب عليه من ائتماره، غير مقصر فيما [أُمر] به من العمل ولا مفرط، ولا مستوجب في تقديم ولا تأخير فيما أُمر به لسخط، بل هو مؤتَمِر بما أُمر وأُلزم، محافظ فيما أمر به على ما قيل وأُعلم. فهذا عندنا وجه التأويل، وفيما فَهَّمنا عن الكتاب في التنزيل، لا ما يقول به - والحمد لله - من لم يفهم فيه ما فهمنا عن الله، من الاختلاف الكثيرة فأنتبه القليلة، والله المستعان بنوره وتبيينه، من أن رب العالمين، فرض مثل الصلاة الخمس على المؤمنين، أن يصلوا الليل كله، إلا - زعموا - أقله. فمنهم من زعم: أنه إنما(2/458)

177 / 201
ع
En
A+
A-