وفيما أمر الله به المؤمنين من الصلاة، وبعد الذي جعل بينهم بها من الإخاء والموالاة، ما يقول سبحانه :? فإذا اطمأننتم - وهو أمنتم وأقمتم - فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ?[النساء: 103]. والموقوت فهو المؤقت بالمواقيت والحدود، وبما لا يجهله المؤمنون من عددها المعدود، وما فيها من القيام والقعود، والسجود والركوع، والقراءة والتسبيح والخشوع. فمن دلائل مَن أراد علم معدودها، وما قلنا به من قيامها وقعودها، وركوعها وسجودها، فقول الله تعالى: ? حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ?[البقرة: 238]. فحكم عليهم سبحانه فيها بالقيام إذا كانوا آمنين، فإن خافوا صلوها رجالا وركبانا، وبيَّن ذلك كله لهم تبيانا، والرجال الذين ذُكروا في هذه الآية، فهم الرجالة، والركبان: فَرَكْبُ الإبل والخيالة، فإن أمكنهم القيام في الخوف للصلاة قاموا، وإن لم يمكنهم إلا الإيماء برؤوسهم أومُوا.(2/449)
ودل على أن مفروض الصلاة خمس، ليس فيها زيادة ولا نقص، بقول سبحانه: ? حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ?[البقرة: 238]. فكان أول ما يقع عليه اسم صلواتٌ ثلاثٌ وقفا، وكانت الوسطى التي أمرهم الله بالمحافظة عليها مع ما أمر سبحانه من المحافظة على الصلوات رابعة سواها، فلما كملت الصلاة أربع طلبنا إذ علمنا أنها أربع وُسْطُاها، فلم نجد لأربعِ صلواتٍ وسطى، فطلبنا أقل ما نجد بعد أربعامتوسطا، فلم نجده - والحمد لله - إلا خمسا، فكان ذلك لعلم عدد الصلوات بيانا وتبيانا، فعلمنا أن الصلوات التي أُمروا بالمحافظة عليها أربع عددا، وأن الوسطى التي أمروا بالمحافظة عليها معها خامسة فردا، لأن الخامسة لا تكون وسطى لثلاث أبداً، وإنما هي واسطة لأربع، فدل على عدد الصلوات أجمع، وكانت فيما بان من هذا حجة على البدعية، وغيرها من الرافضة وغوالي الجهلة والحشوية، لأن البدعية قالت إنما يجب في اليوم والليلة صلاتان على المصلين، وقالت الرافضة فيها بواحدة وخمسين، وقال من فيها جَهِلَ وغلا، يجزي كل مصلٍ ما صلى.
ثم جعل الله تبارك وتعالى لِمَا فرض من هذه الصلوات، ما جعل من الطهور والمقادير والأوقات، فتُنوزِعَ أيضا واختلف فيه، وكان ما قلنا به من ذلك وذهبنا إليه، ما أخذنا وقلنا فيه عن قبول الكتاب، وما لا يأبى - إن شاء الله - علينا قبوله أولو الألباب.
فقلنا وبالله نستعين على الهدى، ونعوذ به من الضلالة والردى: وقت كل صلاة قبلها، وكذلك ما فرض الله من الطهور لها، وكل وقت كان للفريضة اللازمة، فهو وقت للنافلة المتطوعة. وكل وقت لا يصلى فيه الفرائض، فلا يصلح أن يصلى فيه النوافل، وخير المقادير والأوقات، ما جعل وقتا للصلوات، كما خير الشهور والأزمان، ما دلنا الله عليه من شهر رمضان، وخير ليالي الشهر، ما ذكره الله من ليلة القدر، وخير الأيام السبعة، ما دلنا عليه من يوم الجمعة.(2/450)
وبلغنا كثيراً لا نحصيه أن علياً، رأى رجلا يصلي ضحى أو ضحيا، فقال له: نحر الصلاة نحره الله.
وبلغنا أن أبا جعفر بن علي بن الحسين كان يقول ( والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده الضحى قط ).
وبلغنا أن علياً صلى عليه، كان يقول كثيرا لبنيه، ( يا بَنِيَّ لا أنهاكم عن الصلاة لما فيها من ذكر الله، ولكني أسخط لكم خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ).(2/451)
[ أوقات الصلوات ]
وقال الله لا شريك له، في الوقت وما حد للصلوات منه، فيما نزل من الكتاب لرسوله، صلى الله عليه وآله: ? أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ?[الإسراء: 78]. فجعل الله هذا وقتا للصلوات من الفرائض والنوافل محدوداً. وقال له، صلى الله عليه وآله: ? ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا ?[الإسراء: 79]. وما أمره الله سبحانه - في صدر نهاره، ولا في شيء مما وصل إلينا عن الرسول من أخباره - بنافلة من النوافل، وما كان بفضيلة من الفضائل بجاهل، فأمره بالصلاة من دلوك الشمس وهو المَيْلُ والزوال، وغسق الليل فهو السواد والاظلام، وهو الطرف الآخر، والطرف الأول فهو الفجر. وفي هذين الوقتين، وما فرض فيهما من الصلاتين، ما يقول سبحانه : ? أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ?[هود: 114]. فجعل سبحانه طرف النهار الأول كله وقتا للفجر، وجعل الطرف الآخر كله وقتا للظهر والعصر، وجعل زلف الليل كله جميعا، وقتاً للمغرب والعشاء معاً، فبيَّن أوقات الصلوات لمن فرضت عليه، بيانا لا شبهة ولا لُبسة فيه.
فوقت الظهر والعصر جميعا، لمن أراد أن يفردهما أو يجمعهما معاً، من دلوك الشمس إلى غروبها، إلى أن يظلم أفق السماء ويظهر أحد نجومها، لذهاب ضوء الشمس وشعاعها، لا يعتد في ذلك كله بظهور الكواكب الدرية ولا اطلاعها، فإنه ربما طلع أحدها والشمس ظاهرة لم تغب، فلا يعمل من تلك الكواكب كلها على ظهور كوكب.
[ و ] وقت المغرب والعشاء الليل كله، وزلف الليل فأول الليل وآخره، كل ذلك وقت لهما جميعا، من شاء أفردهما ومن شاء جمعهما معاً.(2/452)
ووقت الفجر أجمع، حتى يظهر قرن الشمس ويطلع، فهذه أوقات الصلوات، وما بيَّن لها من الأوقات، لا ما قال به فيها - من لم يُنصف، ضعفةَ الرجال والنساء من كل مكلف، - [و]لها من عسير المقاييس، وما في ذلك على ضعفة الرجال والنساء من عسير المشقة والتلابيس، التي لو كلفوا عملها دون الصلاة لفرحوا، أورمى بهم إليها وفيها لتاهوا وتَطَرَّحُوا، منها في عسر عسير، وحيرة وضيق وحرج كبير، فقال سبحانه رحمة منه بالمؤمنين: ? ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم وهو سماكم المسلمين ?[الحج: 78]. والحرج في كل أمر من الأمور فهو الضيق، والعسر في الأمور فهو التلبيس والأعاويق.
وزوال الشمس فهو ميلها، إذا ما استوى ظلها، فزالت وأنت مستقبل القبلة عن وسط السماء، فزاد ظلها شرقا قليلا أو كثيرا على مقدار الاستواء. وغسق الليل فهو ما لا يخفى، على مكفوفٍ بصرُه أعمى، وهو سواد الليل وظلمته، أوَّليته في ذلك سواء وآخريَّته، والفجر أوله وآخره فقد يعاين [ ويرى ]، فهو بيِّن لا يشك فيه ولا يُمترى، وهو ما بين إدبار النجوم، إلى طلوع الشمس المعلوم، وكل وقت بين هذه الأوقات، فََأَبينُ ما بُيِّن من البينات، لا يحتاج فيه إلى مقياس، ضعيف ولا قوي من الناس، والحمد لله في ذلك وغيره، على تخفيفه فيه وتيسيره.(2/453)