ومن ذلك إن سأل سائل عن عدد الوضوء فيما يجب عليه، من غسل كل عضو وبيَّنا فيه، وليس لشيء من ذلك عدد يحصى، بأكثر من أن يغسل ويوضأ فينقا، وتحديد ذلك جهالة وعمى، إذ كان باسم الغسل مسمى،لأن الله سبحانه قال: ? فاغسلوا ?، فقد غسلوا أكثروا بعد الغسل أو أقلوا.
فإن سأل سائل عما يجب من الوضوء على كل من كان نائما ؟
قيل: قد فرغ من هذا فيما أوجبنا من الوضوء عند كل صلاة على كل مستيقظ قاعدا كان أو قائما.
فإن قال: فإن نام في الصلاة نفسها ساجدا، أو نام فيها قائما أو قاعدا ؟
قيل: وهذا أيضا قد أجبنا عنه وسواء ذلك كله كيف ما كان إذا حق فيه النوم وسمي باسمه، فهو كله نوم والحكم فيه كحكمه.
ومن سأل عن مسح الرأس يبل من الماء، على بعض ما قد وُضِّيَ من الأعضاء، هل يجزيه ذلك فيه أم لا ؟
قيل: لا يجزيه إذا كان بللا.
ألا ترى أن متوضئا لو وضأ بماء عضوا من أعضائه، لم يجز له أن يوضي غيره بماء وضاه به من مائه، وماؤه أكثر وأنقى وأشبه بالكفاية والرضا، من بلل يكون على عضو من الأعضاء، فلا يجزيه إلا مسح رأسه بماء جديد، ون يأتي في مسحه على القريب منه والبعيد، مما قَبُلَ منه أو دبر، وكل ما أنبت منه الشعر، لأن الله سبحانه أمره بمسحه، كما أمره بغسل يديه ووجهه، فعليه مسحه كله جميعا، كما عليه غسل وجهه ويديه معا.
ولو سأل سائل عمن أمطرت على رأسه السماء، أو صُب على رأسه ماء وهو يتوضأ، هل في ذلك ما يجزيه من واجب مسح رأسه بيديه أو إحداهما ؟
وكذلك أذناه فمعناهما معنى الرأس في مسحه، وقد فرغنا ـ والله محمود ـ من الجواب في هذا كله، وفصلناه فيما بيَّنا من أصله.(2/439)
[الاشتغال بغير الصلاة يبطل الوضوء]
وإن سأل سائل عمن مسح رأسه ثم أخذ بعد المسح شعره، أو غسل يديه ثم قصر بعد غسلهما ظفره، هل في ذلك لطهارتهما نقض، أو في تجديدٍ من ذلك عليه فرض ؟
قيل: على من قام لصلاته بعد أخذ شعره وظفره، أن يعود لجميع وضوءه وطهره، لأن الله سبحانه يقول: ? ياأيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ? [المائدة: 6]، فأوجب عليهم الغسل كلما قاموا إلى الصلاة ليصلوا، إلا أن يكونوا كما قلنا في مسجد من مساجد الله منتظرين فيه لصلاتهم، أو مشتغلين فيه بذكر الله فيكونون على وضوءهم وطهارتهم، ما كانوا فيه لصلاة منتظرين، أو لله سبحانه فيه ذاكرين، فإن لم يذكروا فيه وينتظروا، وخاضوا فيه بباطل فأطالوا فيه أو أقصروا، كان واجبا عليهم فيها، الغَسل كلما قاموا أبدا إليها.
فإن سأل سائل عن جنب اغتمس اغتماسة في ماء يغمره، هل في ذلك ما يجزيه ويطهره ؟
قيل: نعم، قد طهر واكتفى، واغتسل كما أُمِر وتوضا، إلا أن لا يكون أنقى ما أمر بإنقائه، من دبره وقُبُله وجميع أعضائه، فإن ذلك ربما لم ينق، وإن هو اغتسل وتوضا، وقد حددنا ذلك كله وبيَّنَّاه، فمن أدى ما عليه فيه فقد طهرَّه وأجزاه، ومن لم يؤده كما أُمر أن يؤديه ويكمله فلم يؤد إلى الله فيه فرضه، وكيف يؤديه وقد انتقص بعضه؟+(2/440)
[القيحُ والصديد والدود]
ومن سأل عما يجب في القيح والصديد، وما يخرج من الدبر من الدود ؟
قيل: أما القيح والصديد فأقل ما فيهما ما في الدم، وعليهما ما عليه في الحكم، يغسلان كغسله، وسبيلهما في النجاسة كسبيله، لنتنهما وريحهما، وقذرهما ومنظرهما.
وقد قال الله سبحانه :? ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ? [البقرة: 222]. ويقول سبحانه: ? وإن كنتم جنبا فاطهروا ?. فمن ترك القيح والأذى له في بدن أو ثوب فقد تقذَّر، ومن لم ينق منها فلم يتطهر، وقد أمر الله بالتطهر جميع المؤمنين، وأخبرهم سبحانه أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فأوجبنا التطهر منهما وفيهما، بما ذكرنا من هذين الوجهين جميعا عليهما.
وأوجبنا الطهارة من الدود فيما أوجبنا من التطهر، لأنه فيما أوجبنا فيه الطهارة مما يخرج من قُبُل أو دُبُر، من رطوبة أو بلل أو دآبة من دود أو غير دود، أو صفاة أو كسرة صغيرة أو لطيفة كالقذاة من العود، لأنه لا يخرج من ذلك خارج وإن صغر ويبس، إلا وقد خرج معه عليه نتن وإن لم ير ويحس، وفي كل ما خرج من القُبُل والدبر، ما قد أوجبناه في الوضوء والتطهر، ولذلك ما أوجبنا في الريح وهي ألطف خارج، يخرج من تلك الموالج ما أوجبنا من الوضوء والتطهرة، وأوجبنا ذلك فيها لأنها من الأشياء القذرة، وهي في النتن أشبه شيء بالعذرة فلهذا كله لزمها ما لزمها، وكان الحكم في هذه الأشياء كلها حكمها، وعن الكتاب ما قلنا به فيها، وبحكم الله في الكتاب حكمنا في ذلك كله عليها.
فإن سأل سائل عما لا ينقطع من بول أو بواسير، أو عن غير ذلك مما يجب فيه الوضوء والتطهير من جميع الأقاذير ؟(2/441)
قلنا: أي عضو من المؤمن لزمه، شيء من ذلك فلم ينقطع عنه وداومه، تَرَكه ـ لما غلب عليه منه ـ على حاله، ولم يلزمه تطهيره في وضوءه ولا اغتساله، ونظر إلى كل عضو سواه، فغسله منه ووضَّاه، لأن الله سبحانه أمره بغسلها كلها، فلا يزيل عنه مفروضَ غسلِها، الذي فرضه الله عليه في كلها، امتناعُ ذلك عليه في الواحد منها، ولا يزيل ما زال من ذلك عنها، وإن كانت العلة من ذلك بدبره أو بإحليله، كان بذلك واحدا في حكمه وسبيله، فترك تطهيره، وطهرَّ غيره، مما أمره الله سبحانه بالتطهير له، وحكم عليه أن يطهره ويغسله، فترك غسل ذلك وحده إذا لم يمكنه، ولم تزل العلة عنه. وإنما قلنا بترك غسله إذا غلب أمره، لأنه لا ينقيه الغسل ولا يطهره، وإنما أمرنا بالغسل للتطهر، فربما كان غسله أكثر من الأذى والتقذر، وأدعا إليه وإن كان حرجا لما نهاه الله سبحانه من الإضرار بنفسه، مع أنه غير مُطِّهر بذلك للعضو من نجسه. فكل هذا يؤكد فيه ما قلنا، ويوجب فيه قبول ما قلنا.(2/442)
[النوم أو السكر يبطل الوضوء]
ومن سأل عمن نام أو هذى أو سَكِرَ ؟
قيل: عليه أن يتوضأ وأن يتطهر، لقول الله سبحانه: ? يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ?[النساء: 43]. فلو صلى صلاة وهو سكران لا يعقل ما يقول فيها، لكان عليه أن يعود ويصليها، وكذلك يعود لوضوئه وطهره، لأنه لا يعلم أثابت أم قد نقضه في سكره، وكذلك من نام أو هذى، فإن الفرض عليه هكذا، لأنه لا يَعقل صلاة ولا طهرا، كما لا يعقل من شرب مسكرا، فحالهما في ذلك حال السكران، لما غلب عليهما من النوم والهذيان.
فإن سأل عمن قدم في الوضوء، عضوا من الأعضاء كلها قبل عضو ؟
قيل: قد فرعنا من هذا كله عليه أن يعود للوضوء ويقدم غسل ما أخر من عضوه، ولا يؤخر من ذلك عضوا أمر الله سبحانه بتقديمه على غيره من وُضُوِّه، وإن فعل وصلى كان عليه إعادة صلاته، لأنه لم يأت بما حدد الله فيها من طهارته.
ألا ترى أنه لو سجد في صلاته كلها قبل أن يركع، لعاد لصلاته وكان محرَّما عليه من ذلك ما صنع ومبتدعا فيه لأخبث البدع، لأنه عمل منه وفيه، بخلاف ما حكم الله سبحانه به عليه، فقدم منه ما أخَّره الله فلم يقدمه، وأخَّر منه ما أمره الله بالتقديم له، فهذا دليل بَيِّنٌ لما قلنا به فيه، وشاهد منير فيما استدللنا به عليه، لا يأبى قبوله منصف، ولا يخالف فيما قلنا إلا حائر متعسف.
وإن سأل سائل عن ميت وقع في بركة أو بير، أو حوض من ماء غير كثير، هل فيه ما أفسد طهارة الماء ؟
قيل: لا، قد فرغنا من هذا وما كان له مشبها من جميع الأشياء، فيما حددنا من طهارة الماء، قل أو كثر، مما يثبت للماء لونه أو طعمه وريحه فلم يغلب حتى يتغير.
وإن سأل سائل عن بول البعير وغيره من أبوال الحمير الوحشية ؟
قيل: كل شيء لم يحرم الله سبحانه من الدوآب أكله، فليس ينجس شيئا أصابه بولُه ولا زبلُه، وليس شيء مما يحرم من البهائم ينجسه، إلا ما كان محرما في نفسه، مثل الخنزير وغيره من المحرمات لحومها.(2/443)