القول في الحجامة والرعاف
إن سأل سائل فقال: هل يجب عندكم الوضوء من الحجامة والرعاف ؟
قيل: نعم، أو ليس قد فرغنا من هذا فيما قدمناه لك من الذكر والأوصاف.
فإن قال: ما تقولون فيمن قاء دما أو قَلَسَه ؟
قيل: هذا أيضا قد بيناه نفسه، فيه وفي الرعاف والحجامة، ما أوجبنا في الدم المسفوح من الطهارة الواجبة اللازمة، لأن هذا كله مسفوح متحدر، جميعه يقطر.
فإن قال: فما تقولون فيمن بصق بصاقا مختلطا بدم فهنا لا يسفح ولا يقطر ؟
قيل: ليس عليه في هذا وما أشبهه من الدم وضوء ولا تَطَهُّر، وليس الوضوء والتطهر، من الدم إلا فيما ينحدر، فأما ما ثبت من الدم في مكانه فلم يزل فليس ينقض عندنا وضوءاً ولا طهرا، لأنا لم نسمع لذلك في كتاب الله سبحانه ذكرا، ولكنا نرى له أن يمضمض منه فاه، ففي ذلك إذا فعله به ما كفاه، كما لو أصاب عضوا من أعضائه، أمرناه بتنظيف العضو وحده منه وإنقائه.
فإن قال: فما تقولون فيمن كان على شيء من بدنه دم فمسحه بخرقة حتى ينقيه، هل يجزيه ذلك من غسله ويكفيه ؟
قيل: نعم إذا مسحه حتى ينقا منه أثره، فقد أجزاه ذلك فيه وطهرَّه، وكذلك دم لو خرج من أنفه، فأخذه بأصبعه أو أصبعين من كفه، ثم عركه حتى يذهب ريحه وأثره، كان في ذلك أيضا ما أجزاه وطهره.
وكذلك ما أصاب الثوب من غير مسفوح الدماء، اكتفى فيه بالعرك والإنقاء، وإذا ذهب بالعرك أثره، فهو نقاه وطهره.
فإن قال قائل: فَلِمَ لو توجبوا في قليل المني مَن طهرَّه بالعرك ما أوجبتم في قليل الدم ؟
قيل: لأن الله سبحانه لم يفرق بين قليل المني وكثيره فيما أوجب من نجاسته في الحكم، وقد فرق بين قليل الدم وكثيره في حكمه، بما خص به مسفوح الدم من تحريمه، فلذلك فرقنا فيه بين الكثير القليل، وقلنا فيه بما دلنا الله سبحانه عليه من التنزيل.
ومن سأل عن دماء الخنافس وما يشبهها من الجعلان، وعن دم الثعابين والجراد والذبان ؟(2/434)
قيل: هذا كله قل أو كثر، ليس مما يسفح ولا يسيل وإن هو عُصِرَ، ولا ينجس من كل دم كما قلنا إلا ما سال أو قطر، ويستحب منه كله ما يستحب من قليل الدم أن يغسل ويطهر، ولا نوجب منه إن لم يغسل إعادة لوضوء ولا صلاة، كما نوجب ذلك على من تركه من الأنجاس المسماة، لأن الله سبحانه لم يسمه كما سماها نجسا، وإنما استحببنا غسله لأنا نراه وسخا ودرنا ودنسا، وهذا كله أجمع فلا ذكاة عليه، وذلك مما يدل على حقيقة قولنا فيه، لأنه إذا كانت ميتته للطهارة مستحِقَّة، كانت أخلاطه كلها كذلك وإن كانت متفرقة، وكذلك ما قل من الدم حتى يكون في القلة والصغر، شبيها بالخردلة أو بما زاد قليلا عليها من القذر، ولا تجب على من صلى به إعادة ـ إذ لا يسفح – لصلاته، ولا ينتقض عليه وإن لم يغسله [ شيء ] من طهارته، وما كان من الدم لا يسفح من خروجه، ولا يقطر عن رأسه، فلا إعادة فيه، فإن كان في بدن المصلي أو ثوبه دم يكثر، حتى لا يشك في أنه مما كان يسيل أو يقطر، ، فنسيه حتى صلى، عاد لصلاته فصلى، لأن نسيانه لما يجب عليه منه، لا يزيل فريضة الله في الصلاة عنه، ولم نوجب إلا ما أوجبه غيرنا.(2/435)
القول في التيمم
وإن سأل سائل عن من لم يجد ماء وكان في مكان لا يقدر فيه أن يجد طيب الصعدان كيف يصنع في صلاته، وما الذي يجب عليه من طهارته ؟
قيل: يصلي ولا يتيمم بشيء وإن حضره وكثر عنده فلم يعدمه، إلا أن يجد الصعيد الطيب الذي أمره الله سبحانه أن يتيممه فليتيممه، فإن لم يجده لم يمسح يديه ولا وجهه بغيره، وكان قد زال عنه فرض ما أمره الله فيه بتطهيره، لأن الله سبحانه لم يذكر أن طهراً يكون إلا به أو بالماء، وقد علم الله جل ثناؤه مكان غيرهما من الأشياء، فلم يأمر المؤمنين به ولم يذكر لهم سبحانه فيما ذكر من تطهير الصعيد لهم، وغناه في الطهارة عنهم، ? فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل علكيم من حرج... ?[المائدة: 6 ].
وقد قال غيرنا: إن من وجد برذعة حمار , أو كان في بيت مبلط بزجاج أو رخام، تيمم أيَّ ذلك وجده فمسح بوجهه ويديه، وكان ذلك مؤديا عنه لفرض الله في الطهارة عليه، وهذا خلاف لما أمر الله به من تيمم الصعيد لا يخفى، وقولٌ لا يقول به إلا من جهل وجفا، ولو جاز أن يتيمم بما هو غير الصعيد لا يشك فيه من هذه الأشياء، لجازت الطهارة بخلاف ما أمر الله به من الوضوء بالماء، لأن خلاف ما بين الماء، وغيره من الأشياء، ليس بأكبر في المخالفة من خلاف الصعيد، للرخام والحديد، فإن جاز أن يتيمم بخلاف الصعيد جاز أن يتوضأ بما هو مخالف للماء من كل ما كان له مخالفا من لبن أو غيره، ثم يكون بذلك مؤديا لما عليه من كل عضو وَضَّاهُ به من تطهيره.(2/436)
القول في الماء القليل
ومن سأل عمن كان معه ماء قليل لا يكفيه، ما الذي يجب لله في ذلك من الطهارة عليه ؟
قيل: يجب عليه فيما وجد من الماء، أن يتوضأ به ما كانت له فيه كفاية من الأعضاء، يبدأ في ذلك بما قلنا من يمنى كفيه، ثم بالأول فالأول مما يجب في الطهارة عليه، فإذا أكمل غسل وجهه ويديه وأتمه، فليس له أن يتمسح من صعيد ولا أن يتيممه، وإنما له أن يتيمم الصعيد ما لم يكن الماء عنده، فإذا حضره الماء ووجده، فإنه يلزمه بوجوده للماء فرض الطهارة به والوضو، لأن الله سبحانه فرض الطهارة بالماء إذا وجد على كل عضو، فما وجد لعضو منها كلها ماء، لم تكن له بغيره طهارة ولا اكتفاء.
ألا ترى أن الماء في الطهارة أنقى وأرضى، وأوجب وإن وجدا جميعا فرضا، لقول الله سبحانه: ? فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ?، فلما وجد الماء لبعضها كان الوضوء به عليه فيه واجبا. ألا ترى أنه لو لم يجد إلى ما فرض الله عليه من الصلاة كلها سبيلا، لما كان ذلك لما يطيق أن يصليها عنه واضعا ولا مزيلا.
ومن سأل عمن معه بُلغةٌ من المسافرين والمرضى، وهو لا يأمن إن تطهر بها أن يهلك إن هو فعل تلفا وعَطَباً ؟
قيل له: لا يحل له أن يتوضأ به إذا كان أمره فيه كذلك، لأن الله سبحانه حرم عليه أن يوصل إلى نفسه هلكة متلفة ما كانت من المهالك، ووعد عليه النار إن هو فعله عدوانا وظلما، فحكم به عليه لنفسه حكما حتما، فقال سبحانه: ? ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ? [النساء: 29-30]. وعليه أن يتيمم كما قال الله سبحانه: ? صعيدا طيبا ? فيمسح منه بوجهه ويديه، وكذلك من خاف على نفسه دون الماء سلطانا أو لصوصا أو سبعا أو كرارا كان التيمم واجبا عليه، وكان حراما في ذلك كله من ابتلي به أن يُعرِّض نفسه في شيء منها تلفا، أو يجشمها في تعريضه والطلب له هلكة أو حتفا.(2/437)
ومن وجد مع غيره شيئا من الماء فطلب شراه فلم يعطه إلا بغلاء وهو لثمنه واجد كان عليه أن يشتريه، لأنه واجد له بما وجد من الثمن واجبة فريضة الله عليه فيه، كقول الله سبحانه: ? فلم تجدوا ماء ? ومن حضرته الأشياء فوجد لها وإن غلت ما يشتريها به من الأثمان، فهو لها واجد غير شك فيما يعرف من معلوم اللسان، إلا أن يكون ذلك يُحل بماله اجحافا، أوله في بدي ما معه من طعام أو مثله إتلافا، فلا يكون له الاتلاف والاجحاف بنفسه في ذلك، لأنه يعود في تلك لو فعلها بنفسه إلى ما نهي لها عنه من القتل والمهالك، وإلى ما لم يرده الله تبارك وتعالى له من الحرج والعسر، وإلى خلاف ما أراد الله سبحانه بعباده من التخفيف واليسر، قال الله سبحانه: ? يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر... ِ?[البقرة: 185]، وقال في آية الوضوء نفسها: ? ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم به... ?[المائدة: 6].
وقال سبحانه فيما فرض على الأموال من النفقات، وما حدد من ذلك تحديدا من أحكامه المفصلات: ? ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات... ?[البقرة: 219]. والعفو من الأموال كلها، فهو ما لم يكن فيه الإحجاف بها، وليس قول من قال: لا يشتريه إذا غلا، قولا يجد له من أنصف أصلا. ألا ترى أنه إن زال عنه شراه لغلائه، لم يكن يجب عليه وإن حضر شيء من شرائه، وهم يوجبون عليه إذا رخص شراه ويرونه بذلك واجدا للماء، وهذا فهو الأصل فيما أوجبنا عليه من شرائه في الغلاء، ولما حددنا من قولنا في الطهارة فروع كثيرة متفرعة، وهي كلها وإن كثرت ـ والله محمود ـ فيما بيَّنا من أصولها مجتمعة.(2/438)