ألا تسمع لقول الله سبحانه، ما أنور بيانه: ? الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين ? [التوبة: 107 - 108]. فنهاه صلى الله عليه إذ بُني لمعصية وبمعصية عن أن يقوم فيه أبدا، وجعل تركه للقيام فيه وإن كان مسجدا من المساجد طاعة وهدى، وكيف تجوز فيه صلاة، أو يكون له طهر أو زكاة ؟! ولم يأذن الله سبحانه في بنائه لمن بناه قط، بل بناؤه له معصية لله كبيرة وسخط، ودخوله على من بناه مُحرَّم لا يحل، فكيف تحل فيه صلاة أو تقبل.
ألا تسمع لقول الله جل ثناؤه، فيما رفع من البيوت بإذنه: ? في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوة والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ?[النور: 36 - 37]. فدل سبحانه عليها وعلى زكاتها، بما ذكر من أذنه في رفعها وبنائها، فلو كان ما أذن الله في رفعها منها كما لم يأذن فيه، لكان ذكر الأذن منها فضلا لا يحتاج إليه، وكان سواء فيها أذن أو لم يأذن، وكان ما بيَّن من ذلك كما لم يُبيَّن، فلما لم يأذن سبحانه لأحد في رفع المسجد الحرام، كان محرما فيها ـ فضلا عن الصلاة ـ كل دخول أو قيام.
ومن ذلك ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقوم في مسجد الضرار إذ بني مخالفة لله سبحانه وعصيانا. ولقد كان ما ذكرنا من هذا الباب، قبل ما نزل من وحي الكتاب، وأن في الجاهلية منه لرسما، أصابوه فكرة أو تعلما، فقالوا قريش عندما أرادوا من بناء الكعبة: لا تُخرجوا فيما أردتم من بناء بيت ربكم، إلا نفقة طيبة، فاجمعوا فيما تريدون من بنائه من كل مال زَكِيٍّ، ونَقُّوه من كل ظلم ومن أجر كل بَغِيٍّ.(2/429)
الكلام في الدم
وأوجبنا في الدم إذا سال أو قطر، أن يتوضأ منه مَن أصابه ذلك ويتطهر، لمشابهته في تحريمه وخروجه من الأبدان المتطهرة، لما يجب به الوضوء إذا خرج من مخرج البول والعذرة، وكذلك كل ما حرم من هذه الأشياء كلها على كل آكل أو شارب شربُه أو أكلهُ، وجب على كل متطهر لله في صلاة أو موقف طهارته وغسله.
فإن قال قائل: فما بالكم لم توجبوا الوضوء في قليله، كما أوجبتموه في قليل البول وكثيره ؟ قلنا: للتبيين بحمد الله المنير، ولأوضح بيان قيل: بمثله في تفسير، لأن الله سبحانه حرم قليل البول وكثيره، فَأَلزَمْنا كل من توضأ غسله وتطهيره، وأنه لم يحرم من الدم إلا ما كان مسفوحا، فكفى في هذا فيما فَرَقنا بينه وضوحا. والمسفوح من الدماء، من كل ما سال أو قطر، أو جرى فتحدر، فلولا أن المحرم من الدماء هو المسفوح بعينه، وأن الله سبحانه بيَّن ذلك وشرحه بحكمته وتبيينه، لما جد الرسول عليه السلام ولا غيره ممن أكل لحما، أن يكون في أكله له معه دما، لأنه ليس من لحم قليل ولا كثير، لا من الأنعام ولا من الطير، إلا وبين أضعافه لا محالة دم , فسبحان مَن حَكَم فيه حُكْمَ مَن يعلم.(2/430)
فلم يحرمه تبارك وتعالى منها تحريما مبهما، فيكون بذلك لما أحل من بهيمة الأنعام محرما، فيتناقض أمره فيه وحكمه، ولا يفهم عنه مُحلَّلُّه أو محرَّمُه، ولكنه فرق بينه سبحانه ففصله، ونزل كل حرام منه وحلال منزله، وليس في شيء منه تقصير ولا فرط، ولا يعرض لأحد مع حسن نظر فيه حيرة ولا غلط. فقال سبحانه: ? إلا أن تكون ميتة أو دما مسفوحا ? [الأنعام: 145]، فبين تحريمه فيه بيانا مشروحا، فهذا ما به فرقنا بين قليل العذرة والبول، وله ومن أجله صرنا فيه إلى ما صرنا إليه من القول، وكل شيء من الدماء كلها وإن قل كان في عضو من أعضاء الوضوء، غسل ذلك كله أو مسح حتى ينقى منه جميع ذلك العضو، فلا يرى منه فيه أثر، ولا يبقى فيه منه دنس ولا قذر، لأن الله سبحانه أمر بغسله، فأوجب الغسل الذي هو الانقاء على كله.(2/431)
القول في النفاس
وأوجبنا الغسل في النفاس كما أوجبنا في الحيض سوءا، لأن النفاس محيض وإن اختلف به وفيه الأسماء.
وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المحيض واختلاف أسمائه، أنه قال لمرَةٍ كانت معه من نسائه، فطمثت، فوثبت فقال لها صلى الله عليه: ( مَالَكِ أَنَفِِسْتِِ ) وفصحاء العرب والناس، يدعون المحيض باسم النفاس، والنفاس وإن دعي محيضا، فقد يدعا طمثا أيضا. وقد فسر الله سبحانه: ? ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن...? [البقرة: 222]. فأوجب من ذلك كله التطهر، وأمر فيه كله من الغسل بما أمر، فأوجبنا اتباعا فيه لأمر الله وتنزيله، واستدلالا بما دل الله به عليه من دليله.
فإن سأل سائل عن الكدرة والصفرة، وما يعرض من ذلك في بعض الأحوال لِلْمَرَةِ ؟
قيل: أما ما كان من ذلك بين فترات دفق الدم، وكان وقت محيضها فيه لم تقطع بعد عنها ولم تنصرم، فهو من المحيض ودمه، والحكم فيه عليها كحكمه، فإذا انقطع عنها المحيض وهو خالص الدم ومحضه، وجب عليها عند انقطاعه عنها الغسل ولزمها فرضه، لأن المحيض والدم إنما هو ما كان خالصا محضا، كما أن المحيض منه ما كان مشوبا بغيره متمحضا، من دلائل ذلك أيضا، قول بعض العرب إنا لنشرب اللبن محيضا ومحضا، يريد بالمحض الخالص منه المحض ؟، والمحيض فما قد خلط بالماء ومُحِضَ.(2/432)
القول في الحبلى
ومن سأل عما ترى من ذلك الحبلى، فقال: أمحيض هو عندكم أم لا ؟
قيل: لا ليس بمحيض منها ولا طمث، والحكم عليها فيه كالحكم عليها في كل حدثٍ حدث، عليها أن تتوضأ من ذلك إذا رأته وضوءا، أو تغسل أعضاء الوضوء له عضوا عضوا، وإنما دعانا إلى تصحيح اسم المحيض، وما بيَّنا به منه بذكر المحض والمحيض، ما أردنا من تصحيح ما حكم الله سبحانه به منه لْلِمَرَةِ وفيها، لكي لا يزول ما أثبته الله سبحانه إذا انقطع المحيض من فرض الصلاة عليها، فلو لم يَبِنْ ذلك بما قلنا ـ وأبنَّا، ولم يقبله من وصل إليه عنا ـ لكان الاحتياط لْلِمَرَةِ فيه، وإن التبست معانيه، أولى لمن التبس عليه ما قلنا به فيها وأرضى، وأجدر لأن لايبطل لله عليها فرضا.(2/433)