والآية في كل ما كانت من الأشياء فيه، فهي الدلالة البينة المستَدَل بها عليه، ومن استدل بالآيات على ما غاب صح له به يقينه، وإن لم يره ولم يبصره لغيبته عنه، وكان أصح عنده صحة، وأوضح له ضحَّة، من كل ما وضح من الأمور كلها فاستنار، وأيقن به كما يوقن بالليل والنهار، بل كان أصح عنده في الإيقان، من كل ما أدركه برؤية أو عيان، لفضل درك اليقين، على درك الرؤية والعين، ومن لم يفكر، لم يؤمن ولم يبصر، وإنما يوقن مَن فكَّر، ويبصر من نظر، كما قال سبحانه: ? أولم يتفكروا ? [الروم:8]. ? أولم ينظروا ? [الأعراف: 185]. ? أولم يروا ? [يس: 71]. تنبيها من الله بذلك كله لهم على أن يوقنوا فلا يمتروا، فيما عرفهم الله سبحانه من نفسه بآياته، ودلهم على معرفته من غيب أموره بدلالاته، فليس يوصل إلى معرفته واليقين به، وما احتجب عن العباد من غيبه، إلا بما جعل من الدلالات، وأرى من الآيات، كما قال سبحانه: ? سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد، ألآ إنهم في مرية من لقاء ربهم ألآ إنه بكل شئ محيط ? [فصلت: 53 – 54]. ولقاؤهم لربهم فهو مصيرهم ومرجعهم إليه، وليس بلقاء رؤية ولا عيان ولا يمكن شيء من ذلك فيه، لبعده سبحانه في ذلك وغيره من مماثلة الناس وغير الناس، وبقدسه وتعاليه عن أن يُنال أو يُدرك بحآسة من الحواس، وإنما تدرك معرفته وتُنَال ـ له القدس والكبرياء والجلال ـ بما بَيَّن من الدلائل والآيات لقوم يعقلون، كما قال سبحانه: ? قد بينا الآيات لقوم يوقنون ? [البقرة:118]. فليس بعد تبيين الله بيان، يكون به معرفة ولا إيقان.
والحمد لله على ما بيَّن من آياته، وأوضح من دلالاته، ونستعين بالله على اليقين بمعرفته، ونعوذ بالله من الإلحاد في صفته.(1/81)
وفي مدحة الله سبحانه للأبرار، بما آمنوا به مما غاب عن الأبصار، واستدلوا عليه بالنظر والأفكار، عن غيب المعرفة بالله وإيقانه، وما لا يدرك أبداً من الله برؤيته جهراً ولا عيانه، وما لا يُصاب فيه أبداً حقيقة العلم واليقين، إلا بما جعل الله عليه من الشواهد والدليل المبين، هو أحق حقيقة، وأوثق وثيقة، وأثبت يقينا، وأنور تبيينا، من كل معاينة ـ كانت أو تكون ـ أو رؤية، أو دركِ حاسةٍ ضعيفة أو قوية، ما يقول الله سبحانه: ? الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ? [البقرة:1 – 2]. تبرئة من الله لهم فيما غاب عنهم في جميع أموره من كل شك وريب.(1/82)
[استدلال إبراهيم على وجود الله]
وفي الاستدلال على الله، بما يرى ويبين من آيات الله، ما يقول أبوك إبراهيم خليل الله: ? إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً ? [الأنعام:79]، احتجاجا على قومه في غيبه بما يرون من فطرة الله في سمواته وأرضه وتوقيفاً. ويقول صلى الله عليه: ? أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين ? [الشورى:76 – 81]. فكل ما ذكر صلى الله عليه وعدد من خلق الله له وهداه، وإطعام الله له وسقيه إياه، وإبراء الله له من مرضه وشفائه، وإماتة الله له وإحيائه، فبدائعٌ موجودة، وأفعال بينة معدودة، لا ينكر موجودها، ولا يجهل معدودها، من المدركين لها من أحد، ألحد فيها أو لم يلحد، وإنما ينكر من أنكر صنعها، ويجهل مَن جهل بدعها، فأما العدد لها والوجود، فَبيِّنٌ فيها محدود، لا ينكره منكر، ولا يتحير فيه متحيِّر.
وكل ذي عدد، وكلُّ ما حُدَّ بحد، فالدليل على صنعه تعديده، وعلى أنه محدث تجديده، وإذ كان ذلك كذلك وجد الصانع المبدِع عند وجوده، والمحدِّد له المحدِث بما بان فيه من حدوده، لأنه لا يكون أبدا حدث إلا من محدث موجود، و لا يكون حد أبداً إلا من مفرَّق محدود، كما قد رأينا في ذوات الحدود، من كل مفترق موجود، لا يمتنع من درك ذلك ويقينه وعلمه، إلا من كان مكابراً فيه لحسِّه ووهمه.(1/83)
وإنما أراد إبراهيم صلى الله عليه بما عدَّد من ذلك وذكر، ما ابتدع من ذلك كله وصنع وافتطر، مما لا صنع فيه لصانع مع الله، وما لم يوجد شيء فيه قط إلا من الله، فأما ما يصنع العباد بعد صنع الله من أخذ وعطاء، وما يدور في ذلك بينهم من الأشياء، فلم يرده إبراهيم صلى الله عليه، ولم يعدده ولم يذهب إليه، وكل ما كان من العباد في ذلك من الصنائع، فغير صنع الله في الابتداء والبدائع، صنعُ الله سبحانه فابتداع، وصنع العباد فاحتيال واصطناع، وصنع الصَّانع، غير صنع الطبائع، صنع الطبائع صنيعة مبتدعة مطبوعة، وصنع الصانع فصنيعة معتملة مصنوعة، والصنعة لا تكون إلا في مصنوع، والطبيعة لا تكون إلا في مبدوع، فما طبع من غير شيء، وكان من غير أصل ولا بَدي، وذلك كله وأمثاله، فما لا يصنعه إلا الله جل جلاله، ولا يدركه أبداً ولا يناله، صنع الخلق ولا احتياله.
ولو كان - ما صنع وابتدع تبارك وتعالى، من ذلك من الأرضين والسماوات العلى، وجعل من الليل والنهار، وما مزج بقدرته من البحار، وما أرسى من الجبال، صُنعَ أَكُفٍّ واحتيال - إذاً لما قدر بذلك على صنع أقله، فضلاً عن صنع جميعه وكله، في وقت من الأوقات وإن طال أبداً، بل إن كان الوقت منه ممتدا سرمداً، ولكنه تبارك وتعالى صنعه وأنشاه، فابتدعه كله وفطره فطرة واحدة فَبَراه، كما قال سبحانه: ? بديع السموات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ? [البقرة:117]. ? فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى:11]. وفي أقل ما ذكر الله من ذلك وجعل، لمن فكر ونظر فاستدل، دليل مبين، وعلم يقين.(1/84)
وأي دليل على الله ؟! وعلى اليقين بالله ؟! من افتطار الله للسماوات والأرض، وما جعل منا ومن الأنعام أزواجا بعضها لبعض، فجعل سبحانه ما ذكر من الأزواج أصولا، أنسل منها بقدرته نسولاً، لا يحصيها أبداً غيره، ولا يمكن فيها إلا تدبيره، فأي دليل أدل ؟ لمن فكر فاستدل، على اليقين بالله ؟! مما يراه عيانا من صنع الله، للأزواج المجعولة المحدثة، وما خولف به في ذلك بينها من الذكورة والأنوثة، فجعل ذكور الأزواج غير إناثها، دلالة بذلك على جعلها وإحداثها، وكان ما عُويِنَ بعدها من ذُروِّ نسلها وتكثيره، دليلاً على حكمة صانعها وتدبيره، وآيةً أبانها منيرة مضيَّة، ودلالة بينة جلية، لمن فكر ونظر - فأحسن - بقلبه، على الله خالقه وربه، فأيقن لفكره فيما يراه ببصره، وما يدركه بمشاعره بالله مقدِّره ومدبِّره، فظفر باليقين والهدى، وسلم من الحيرة والردى، فاستراح ووثق واطمأن، واعتقد المعرفة بالله وأيقن، فخرج بيقينه من الظلمة والمرية والشك، إذا أيقن بالله مليك كل ذي ملك.
وفي مثل ذلك من الخلق والإحداث، لما ذكر الله من صنعه للذكور والإناث، ما يقول سبحانه: ? لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً ? [الشورى:49 – 50]. فَمُلكُ جميعهما، وما يرى من بديعهما، فمعاينٌ موجود لا يخفى ولا يتوارى، عن كل من يعقل ويبصر فيرى، وكل ملك صح دركه رؤية وإيقانا، فلا بد من درك مالكه باليقين وإن لم يُر جهرة عيانا. وكل مفترق في الخلقة والصنع والفطور، مما ذكر سبحانه من الإناث والذكور، فَوُجدَ كما وُجِدَ افتراقه، وبان فطرة صنعه وفطرته واختلاقه، فلا بد له اضطراراً، إذ وُجدَ كذلك جهارا، مِن مميِّز فارِق، ومفتطِر خالق، لا يشك في ذلك ولا يجهله، إلا من لا عقل له.(1/85)