تفسير سورة الشمس
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته صلوات الله عليه عن تفسير: ? والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها ? ؟
والشمس: هي الشمس في عينها ونفسها واستدارتها، وضحاها: فهو ما يُرى من علوها في السماء وظهورها واستنارتها.
وتأويل ? والقمر إذا تلاها ?، فهو اتصاله بها، وجيئته وراءها متصلا نوره بنورها، وظهوره في الضوء بظهورها، وما أبين ذلك وأنوره، وأعرف ذلك وأظهره، في الليالي الغر، من ليالي كل شهر، فنوره حينئذ بنورها متصل، ليس بين نورهما فرقة ولا فصل، وهي ليال بيض مسفرة، مضيئة ساعاتها منيرة، عظمت في النعمة والقدر، فقيل عن النبي صلَّى الله علَيهِ وعلى آلِه: (إن صيامها كصيام الدهر)، وهي ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وهي ليال جعلها الله كلها مضيئة مقمرة، وصل الله ضوء نهارها بضوء ليلها، فكان ذلك من عظيم النعمة فيها وجليلها، فسبحان من وصل وفصل بين الأمور، فوصل منها بين نور عظيم ونور.
? والنهار إذا جلاها ?، فهو إذا أظهرها النهار وأضحاها ؛ لأنها لا تضحى أبدا بإظهار، إلا فيما جعلها الله تضحي فيه من النهار، وكذلك سبحانه دبَّرها في مقدارها، وبذلك قدرها في مسيرها ومدارها، وفيها ما يقول سبحانه: ? لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ? [يس: 40]، فكلهم جميعا في فلك وهو المدار يطلعون ويغربون، فليل الشمس والقمر عند كل أحد فغير نهارهما، وأنهما يدوران جميعا بالليل والنهار في مدارهما، والليل كما قال سبحانه فلا يمكن أن يسبق النهار، وإن كان الفلك في ذلك كله هو المسلك والمدار، لأن الليل لو سبق نهاره، لسبقت الظُّلم أنواره، فبطل العدد والزمان وتقديرهما، وفسد البشر والحيوان وتدبيرهما، ولكان في ذلك أيضا فساد الأشجار والثمار ؛ لأن قوام ذلك كله ونشأته بما فصل بين الليل والنهار.(2/404)
فسبحان مفصل الأمور والأشياء ؛ لبقاء ما أراد بقاءه من النبات والأحياء. وليعلم العالمون عدد السنين والحساب، الذي عنه وبه يكون كل جيئة وذهاب، أو بقاء لشيء من الأشياء جعله يبقى، أو يفنى مما فطره سبحانه خلقا، كما قال جلَّ ثَنَاؤُهُ، وتقدست بكل بركة أسماؤه: ? وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ? [الإسراء: 12].
وتأويل ? والنهار إذا جلاها ?، فهو: والنهار إذا أضحاها، فبانت وظهرت وتجلَّت بتجلِّيه، وبما يظهر من الضوء والنور فيه.
وتأويل ? والليل إذا يغشاها ?، فهو إذا غشي الليل الشمس وأتاها، فوارى بظلمته نورها، وأخفى بظهوره ظهورها، ولم تُرَ الشمسُ، ولم تنتشر الأنفس، ويسكن في الليل الإنس والوحش وكل طير، فهدأ من ذلك كله فيه كل صغير أو كبير، رحمة من الله به لذلك كله، ومنَّة من الله مَنَّ بها عليهم بفضله، كما قال سبحانه: ? ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ? [القصص: 73].
وتأويل ? والسماء وما بناها ?، فالسماء: هي السماء التي نراها، ? وما بناها ? فهو: وما هيأها، من حكمة الله وتدبيره، ورحمة الله وتقديره.
وتأويل ? والأرض وما طحاها ?، فهو: والأرض وما دحاها، ودحو الشيء: هو بسطه وتمهيده، ونشره وتوسيعه وتمديده، كما قال سبحانه: ( ? والأرض مددناها ? [الحجر: 19]، وتأويله: بسطناها ومهدناها )، كما قال الله سبحانه: ? ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا ? [النبأ: 6 – 7]، والممدود إذا أريد مده وامتهاده، ضرب فيه وفي نواحيه لتمتد أوتاده.(2/405)
وتأويل ? ونفس وما سواها ? فهو : الأنفس، التي قد علمناها لكل ذي نفس من البهائم والإنس، وهي التي إذا فارقت وزالت، ماتت أجسادها وخفت، فعادت أجسادها أمواتا هُلاكا، ولم ير لها أحد بعد ذهاب أنفسها منها حراكا، ? وما سواها ? فهو وما هيأها فجعلها حية كما جعلها، وعدَّلها سوية كما عدَّلها، من قدرة الله وإحكامه، ومنته عليها وإنعامه.
وتأويل ? فألهمها فجورها وتقواها ?، هو فعرَّفها تدبير الله لها وإحكامه هيئتها واجتراها، فجعلها تبارك وتعالى عارفة، بكل ما كانت عليه مجترية أوله خائفة.
ثم أخبر سبحانه أن نفس الإنسان، من بين ما ذكرنا من الحيوان، نفس بين الزكاء والفلاح، والفجور والتدسية والصلاح، فإن تَزَكَّت بالتقوى أفلحت وزَكَتْ، وإن تَدَسَّت بالفجور عند الله طلحت وهلكت، فقال سبحانه: ? قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها ? وتأويل تزكيتها: هو تطهرتها، وتأويل تدسيتها: فهو تطغيتها.
ثم ذكر تبارك وتعالى مَن دساها، من سالف الأمم في الفجور فأطغاها، فقال سبحانه: ? كذبت ثمود بطغواها ?، تأويله: بعتاها وغواها، ? إذ انبعث أشقاها ?، وتأويله: إذ قام أخزاها، لشقوته وشؤمه، وبرضاء عشيرته وقومه، والأشقى فقد يكون إنسانا واحدا، أو يكون جماعة عدة وأي ذلك قيل به كانت المقالة في الصدق والمعنى واحدا، كما يقال: أشقى هذه قبيلة فلان وأشقى هذه قبيلة بني فلان، فيكون ذلك كله واحدا في الدلالة والبيان.
ويدل على أن أشقاهم، ليس بواحد منهم، قوله سبحانه: ? فقال لهم ?، فلو كان واحدا منهم، لقال: فقال له. وقوله: ? فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ?، فلو كان الأشقى واحدا منهم، لقال: فدمدم عليه ربه، ولقال أيضا: بذنبه، ولم يقل: ? بذنبهم ?، إذ هو واحد منهم، ولقال أيضا: عقرها، ولم يقل: ? عقروها ? إذا لم يكن إلا من واحد عَقرُها.(2/406)
وقد قال غيرنا: إن عاقر الناقة، كان إنسانا واحدا ليس بجماعة، وذكروا فيما في أيديهم من الأخبار، أن عاقرها يسمى ب- ( قُدَار ).
وتكذيب ثمود فإنما كان بما وعدها صالح صلى الله عليه إن عقرت الناقة من عذاب قريب أليم، لا تكذيبها بما لم تزل به مكذبة قديما قبل عقر الناقة من عذاب الجحيم، إذ يزجرها صالح صلى الله عليه وينهاها، عما أتت في عقر الناقة بطغواها، إذ يقول لهم: ? ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، فلا يخاف عقباها ?، فتأويل ما ذكر الله من السقيا، هو ما أعطى الله من لبن الناقة وسقى.
ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه في الأنعام، وهي الآبال: ? وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ?[ المؤمنون: 21]. وقوله سبحانه: ? ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ? [يس:73] والمشارب والسقيا، هي الموارد والسقايا، والدمدمة: هي التسوية، والهلكة لجمعهم المفنية.
وتأويل قوله تبارك وتعالى: ? فسواها ?، إنما يراد به أدنى ثمود كلها وأعلاها، ومن أضعف ثمود كلها وأقواها.
وتأويل: ? فلا يخاف عقباها ?، فقد يمكن أن وجهها ومعناها، هو فلا يخاف أحدا - على الضمير- أن يراها بعد تدمير الله لها، وما أنزل من الهلكة بها، لا تعقب عقبا، ولا تنسل عقبا، من ولد ولا ذرية، ولا يرجع بعاقبة مؤدية. وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.(2/407)
تفسير سورة عبس
يسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو عبد الله [ محمد بن القاسم ]: سألت أبي القاسم بن إبراهيم عليهما السلام، عن معنى قوله تعالى: ? عبس وتولى، أن جاءه الأعمى ? ؟
هذا تأديب من الله تبارك وتعالى لرسوله أن لا يعبس في وجه الأعمى، الذي يأتيه يطلب منه الإسترشاد والهدى، والأعمى هاهنا: أعمى القلب، وقيل في ذلك: إن الأعمى أعمى البصر، قالوا: هو ابن أم مكتوم، أتى النبي يطلب منه الهدى فأعرض عنه، وليس ذلك كذلك.
ومعنى ? عبس ? هو: عبس وتولى بكليته، ? أن جاءه الأعمى ? في معنى حين، ? وما يدريك لعله يزكى ? هو: تعريف من الله أنه يعلم الغيب، وأن الرسول لا يعلمه، ومعنى ? يزكى ? هو: يتزكى.
? أو يذكر فتنفعه الذكرى ?، معنى ? أو يذكر ?: يعرف فتنفعه المعرفة.
? أما من استغنى فأنت له تصدى ? هذا تأديب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يُجِلَّ مَن سمع بغناه ولو كان كافرا، ولا يستحقر مَن سمع بفقره إن كان مهتديا.
وقد يكون هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظرا لصلاح الأمة في الإقبال إلى من كان معه غنى، ثقة بديانة الفقير، واتكالا على صحته في الدين.
ومعنى ? تصدى ?: تقبل عليه.
? وما عليك ألا يزكى ? من جهة النظر، وهذا - والله أعلم - ليس للرسول ولكنه مثل للتعريف والتأديب.
ومعنى ? وأما من جاءك يسعى ? يبادر ? وهو يخشى ? يتخشع ? فأنت عنه تلهى ? تتشاغل.
? كلا إنها تذكرة ? معناه: نعم إنها تذكرة، وكلا هاهنا بمعنى نعم، وليست بمعنى (لا) كغيرها، ? فمن شاء ذكره ? معناه: فمن شاء تَعَرُّفَه تفقه في معرفته على الإستطاعة التي ركبت، وقد خص في ذلك خواص، وشرح فيه شرح كثير يستغنى عنه.(2/408)