فتأويل ? أرأيت ? فهو: أرأيت أنت ومن معك ممن يرى كما ترون وكلهم جميعا يرى، أن كل من صلى من خلق الله وأمر بما يحب الله ويرضى، مبتغيا بذلك رضوان الله، وطالبا بذلك لما عند الله، مصيبا لذلك في رشده وهداه، قد أصاب بذلك من الله طاعته ورضاه، أليس من نهاه عندهم عن ذلك وآذاه، فقد استوجب لعنة الله وإخزاه ؟ وكذلك كل عبد لله أمر بالتقوى والإجلال لله، كما كان يصلي محمد صلى الله عليه وآله لله ولمرضاته، ويأمر باتقاء الله جلَّ ثَنَاؤُهُ ومخافته، وكل ما كان فيه من ذلك كله عندهم فحميد، ومن يعمل لله بذلك فيهم فرشيد.
ثم قال سبحانه لرسوله، صلَّى الله علَيهِ وعلى آلِه: ? أرأيت إن كذب وتولى ?، تأويل ما يقرأ من ذلك ويتلى. أفرأيت من كذب به بعد إقراره بما يصف، وتولى في ذلك عما يعرف، من أنه ليس له أن ينهى عبدا عن أن يصلي لله، ولكن أن يأمر بما هو الهدى عنده من تقوى الله.
? ألم يعلم ? من فعل ذلك ? بأن الله يرى ?، فيخاف أن يؤاخذه الله بفعله ويجزى.
وتأويل رؤية الله فهو علم الله بنهي من ينهى، عبدا إذا صلى، فما بالهم ينهون محمدا صلَّى الله علَيهِ وآلِه، وأصحابه عن الصلاة، وعما لم يزل يأمر به من التقوى، أهل البر والرشد من الهدى، مع علم من ينهى عن ذلك ويقينه، بأن الله علم بنهيه عن ذلك وغيره، فلما أصر الناهي عن ذلك على ظلمه فيه وكُفره، مع ما أيقن به من علم الله بأمره، فيه كله وأقر، قال سبحانه: ? كلا لئن لم ينته ? عما هو فيه، وعما أصر من ظلمه عليه، ? لنسفعا ? وتأويل ? لنسفعا ? فهو: لنأخذن ? بالناصية ?، والناصية: فهي مقدم الرأس العالية.(2/394)
ثم قال سبحانه: ? ناصية كاذبة خاطئة ?، إذ كانت عما لا يجوز النهي عنه عندها من الصلاة والتقوى لله ناهية، فكذبت قولها في ذلك بفعلها، وأخطأت بنهيها عنه فيه بجهلها، فهي كما قال الله سبحانه: ? كاذبة خاطئة ? وهي لله مخالفة في ذلك عاصية، يقول الله سبحانه فإذا أخذنا منه بالناصية، ? فليدع ? إن استجيب له حينئذ ? ناديه ?، وناديه فهم عشيرته وأولياؤه، وأنصاره وجلساؤه، الذين كانوا يجلسون في مقامه وإليه، ويجتمعون لمجالسته ونصرته لديه، ? سندع الزبانية ?، والزبانية فهم الملائكة المطهرة الزاكية، التي يأمرها الله سبحانه بأمره فتنفذ ما أمرها الله به مطيعة لله غير عاصية، وآخذة لما أمرها الله سبحانه بأخذه غير وانية، تأخذ بالغلظة والشدة، كل نفس عاتية متمردة، كما قال سبحانه: ? عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ? [التحريم: 6].
ثم قال سبحانه لرسوله: ? كلا لا تطعه ? يقول سبحانه لرسوله، صلَّى الله علَيهِ وآلِه: لا تطع من نهى عن الصلاة والهدى، وعن الأمر لله بالتقوى، وكَذَبَ فعمل بالكذب، ولكن اسجد واقترب، بكل عمل صالح مقرِّب، من صلاة أو هدى، أو بر وتقوى، فكلهم يقر بأن الهدى والصلاة لله، والأمر باتقاء الله مقرِّب لمن فعله إلى الله، فليس لهم أن ينهوا عن شيء من ذلك، إذا كان عندهم كذلك، ومن يفعل ذلك أو عمل به فقد كذب فيه قوله بفعله، وصار إلى ما لا مرية فيه عنده من جهله، وتولى عما كان من الإقرار لله عليه، بتركه لما كان مقرا لله بالحق فيه، فتشهد عليه نفسه لله بكفره، وتثبت عليه فيه الحجة باعترافه وإقراره، فبان منه الكفر، وانقطع عنه العذر، فلا عذر له عند نفسه ولا اعتذار، ولا خفاء لكفره ولا استتار.(2/395)
وكذلك كل من أسلمه الله إلى الباطل وحيرته ولبسه، وحجة الله قائمة عليه في الحق بنفسه، وفي إقراره من ذلك بما يقر، حجة لله عليه فيما ينكر، وسواء قيل: اقترب أو تقرَّب، معناهما واحد في التقرب. والسجود فهو السجود الذي يكون بعد الركوع، وليس سجود التذلل والخضوع، وكلا الوجهين فقد يدعا سجودا، وبرا إذا كان ممن هو فيه بَيِّنا موجودا.
وتأويل ? واسجد واقترب ?: فمن السجود والصلاة، وتأويل ? واقترب ? فمن التقرب مما تَقَرَِّبُ به من الحسنات، وسواء قيل: اقترب أو تقرب، معناهما جميعا اقتراب، واحد ذلك كله فيما يقال به فيه فصواب.(2/396)
تفسير سورة التين
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته صلوات الله عليه عن تفسير: ? والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين ?
فالتين: فهو هذا التين المأكول، والزيتون: فهو هذا الزيتون المعلوم، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: أن التين والزيتون هو التين الشامي خاصة وزيتونه، وذلك لما جعل الله للشام من التقديس والبركة، وفي الشام ما يقول موسى عليه السلام لبني إسرائيل: ? يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة ? [المائدة: 21]، وما ذكر الله من طور سينين، فهو الجبل الذي كلم موسى منه رب العالمين.
و? البلد الأمين ? فهو: الحرم الذي على كل حد من حدوده رضم من الحجارة، وعلم فُصِلَ به بين غيره وبينه، لتعرف بذلك ما هو منه.
وإنما أقسم الله سبحانه من الأشياء بما أقسم من القسم ؛ لما جعل فيها من الآيات والبركات والكرم، وإنما يقسم أبدا المقسِم، بما يجل من الأشياء ويكرم، وكرمُ ما ذكر الله من هذه الأشياء، فما ليس به عند من يعقل من خفاء، فمن كرم التين والزيتون، ما جعل الله فيهما من المنافع والطعوم، وكرم طور سينين وبركته، ما كان من مناجاة الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام في بقعته، وفي ذلك ما يقول سبحانه: ? فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة ? [القصص: 3]، فذكرها سبحانه بما جعل فيها من التقديس والبركة، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى: ? وناديناه من جانب الطور الأيمن ? [مريم: 52]، والطور، فهو طور سينين المذكور.
ومن كرم الحرم وفضله، فما جعل الله فيه من الأمن لأهله، وما فرض من حج بيته، وألزم الناس في ذلك من فريضته.(2/397)
وتأويل ? لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ? فهو: خلقه للإنسان في أحسن تعديل، من كل توصيل فيه وتفصيل، أُصِّل به أو فُصِّل، أو هُيِّءَ بهيأته فُعُدِّل، من هيئة أو صورة مُصوَّرة مقدرة، أو فؤاد أو سمع أوعين مبصرة، وكل ذلك كان مفصلا أو موصلا، فقد جعله سبحانه مستويا معتدلا، كما قال تبارك وتعالى: ? يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك ? [الانفطار: 6 – 8].
وتأويل? ثم رددناه أسفل سافلين ?، فهو رده إن بقي وعُمِّر إلى آخر أعمار الآدميين، التي إن صار إليها، وبقي حيا فيها، تغيرت حاله وعقله، وبان نكسه وسفاله، كما قال سبحانه: ? ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا تعقلون ? [يس: 68]، وتأويل ? ننكسه ? فهو: نرده في الهرم والذهاب، بعد القوة والجدة والشباب، أو يموت قبل ذلك على كفر وإنكار، فينكس بعد الكرامة في الهوان وعذاب النار، ومن الذي هو أسفل درجة من كفره إن لم يهرم ؛ إن هو نُكِّس ورُدَّ في الآخرة إلى نار جهنم، فنعوذ بالله من السفال، بعد التِّمة والكمال، وكل إنسان فرذلٌ، ليس له كمال ولا فضل، كما قال سبحانه: ? إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، فما يكذبك بعد بالدين، أليس الله بأحكم الحاكمين ?.
فكلما لم يدخله من العطايا والجود، وذلك فما لا يوجد أبدا إلا في عطايا الله الجواد الكريم، وكل عطاء أعطاه معط سوى الله من حميد أو ذميم، فليس يخلو من أن تدخله مِنَّةٌ وامتِنَانٌ، وإن لم ينطق بالمنة فيه لسان، لأن من وهبه وأعطاه، لم يعطه إلا بعد أن تَكَلَّفه وعاناه، والله جلَّ جلاَلُهُ يعطي من أعطى ما يعطيه، بغير معاناة من الله ولا تكلف فيه، وكل معط سوى الله، فإنما يعطي ما أعطى من رزق الله، وإنما يعطي مما قد جعله الله له، ومما هو لله تبارك وتعالى فنحمد الله الذي لا شريك له، الذي يعطي فلا يُعطَى، والذي لا يعطي معط سواه إلا ما أعطى.(2/398)