يقول الله سبحانه: ? بإذن ربهم ?، تأويل ذلك بإذن الله فيها لهم، وقد قال غيرنا في تأويل ? من كل أمر ?: إنه من كل وجهة، وما قلنا به - والله أعلم - في نزولهم من أمر الله ورحمته بكل نازلة أشبه وأوجه، فهم ينزلون فيها من أمر الله وتقديره، وما جعل الله فيها من بركاته وخيره، إحداناً وزمرا وإرسالا، ببركتها وإعظاما لها وإجلالا، وإذ جعلها الله سبحانه لتنزيله ووحيه وقتا ومقدارا، وذكرها بما ذكرها به من القدر تشريفا لها وإكبارا، وليلة القدر ليلة جعلها الله من ليالي رمضان، ألا ترى كيف يقول سبحانه: ? شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ? [البقرة: 185]، ويقول سبحانه بعد ذكره لشهرها، وما جعل الله فيها من بركتها ويمنها، ? إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ? [الدخان: 3 - 6]، فهي ليلة بركة ورحمة، وسلامة وعصمة، وفيها ما يقول أرحم الراحمين، ورب السماوات والأرضين: ? سلام هي حتى مطلع الفجر ?، وتأويل ? سلام ?، فهي: سلامة هي حتى طلوع الفجر، فليلة القدر ليلة سالمة مسلمة، ليس فيها عذاب من الله تبارك وتعالى ولا نقمة، جعلها الله بفضله بركة وسلامة، ورحمة للعباد إلى الفجر دائمة، ولحقِّ الليلة نزَّل الله فيها وحيه وقرآنه، وفرَّق برحمته فيها فضله وفرقانه، بالبركة والتفضيل، والإعظام والتجليل.(2/389)
وتأويل ? ما أدراك ?، فهو: ما يدريك، لولا ما نزلنا من البيان فيها عليك، ? ما ليلة القدر ? في القدر والكبر، وما يضاعف فيها لعامله من البر والأجر، فهي ليلة ? خير من ألف شهر ?، جعلت لبركتها ويمنها، في التضعيف لها، والأضعاف كعشرة آلاف ليلة، وعشرة آلاف ليلة، وعشرة آلاف ليلة، فذلك ثلاثون ألف ليلة، ونحوها تامة، جعلت مقدارا مضاعفا لليلة القدر تشريفا لها وكرامة، وهي ليلة مقدسة يضاعف فيها كل بر وعمل صالح لمن عمل به فيها من أهلها، فيزاد على تضعيفه من قبل ثلاثين ألف ضعف لقدرها وفضلها، ونحمد الله في ذلك وغيره رب العالمين، على ما أنعم به من ذلك الله خير المنعمين.(2/390)
تفسير سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم
سألت أبي رحمة الله عليه عن تفسير: ? اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق ? ؟
فـ[قال:] تأويل ? اقرأ ?، فهو أن يقرأ، وتأويل اسم ربه الذي أمر أن يقرأ به فهو بسم الله الرحمن الرحيم، الذي قدم له في تعليمه كل سورة عند الإقراء له والتعليم. وربه: فهو الله الذي خلق خلقه، فخلق الإنسان من علق إذا ما خلقه. والعلق: فهو الدم الأحمر المؤتلق، الذي يتلألأ لشدة حمرته ويبرق، فيما ذكره الله سبحانه من علق الدم، وخلق الناس كلهم غير آدم وحواء فإن حواء خلقت من آدم، وخلق آدم من تراب، فلم يخرج آدم وحواء من بين ترائب وأصلاب، كما خرج من بين الصلب والترائب غيرهما، ولكنه كان من الله سبحانه ابتداؤهما وتدبيرهما، من غير أصل مقدم، من أب ولا أم، وكان ما بين ذلك من التباين والفرق، في الصنع والفطرة والخلق ؛ إذ خلق آدم من تراب، وخلق نسله من علق من أعجب العجاب، وأدل الدلائل على قدرة الخالق، على ما خلق مما يشاء أن يخلقه جلَّ ثَنَاؤُهُ من الخلائق، وعلى أن قدرته سبحانه فيما يخلق من خليقته، واحدة غير ولا متشتتة متفرقة، على أقدار ما يرى من افتراق البدائع، والخِلَقِ المفطورة والصنائع، كما قال سبحانه: ? إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ? [النحل: 40]، فأخبر سبحانه أنه لا يختلف عليه في قدرته البدائع والكون، وأن قدرته في ذلك كله لا تتفاوت، وإن تفاوت الخلق المبتدع المتفاوِت.(2/391)
ثم أمر تبارك وتعالى رسوله بالقراءة باسمه أمرا مثنى، وكل ذلك فواحد في الإرادة والمعنى، إلا أن التكرير غير التفريد، في زيادة الأمر والتوكيد، والتكثير فأكثر في الرحمة، وفي زيادة المن و النعمة، بالعلم والتعليم، والأمر والتفهيم، وفي كل كلمة من كلمات الله تقل أو تكثر، بصائر جمة - بمن الله - لمن يعقل ويبصر، فليس في شيء من كلام الله جلَّ ثَنَاؤُهُ نقص ولا فضول، ولا يُشبهُ قولَ الله في الحكمة والبيان من أقوال القائلين قول، فقال سبحانه: ? اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ? من كل ما علمه ببصر أو سمع أو فؤاد، وما كان مرضيا أو مسخطا لله من غي أو رشاد، كما قال سبحانه: ? والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ? [النحل: 78]، فبما جعل الله لهم من الأفئدة يعقلون ويتفكرون، وبما سلم من السمع والبصر يسمعون ويبصرون، فتبارك الله أحسن الخالقين خلقا، وأوسع الرازقين في العلم وغيره رزقا.
فهو المعلم سبحانه بالقلم، وبغيره من وجوه العلم، التي ليست بخط ولا كتاب، من كل ما يعلمه أولوا الألباب، ما يعلمه أيضا سواهم، ممن لم يبلغ في العلم مداهم، وإن لم يكتب، وكان جاهلا بالكتب، مما يعلمه من صناعة، أو بِحَرفٍ أو بياعة، فالله معلمه ومفهمه، من ذلك أو يعلمه، فلولا قول الله سبحانه لم يظفر أبدا من علمه بما علم، ولم يفهم منه وفيه من يعلم ما فهم، وكذلك كل ملهم من طفل صغير، وكلما سوى ذلك من البهائم والطير، من ألهم علما في تَغَذّي، أو محاذرة لضر أو تَوَقّي، فالله عز وجل ملهمه معرفته، وتوقيه ومحاذرته.(2/392)
وتأويل قوله سبحانه: ? ربك الأكرم ?، فهو: ما بان به الله من الجود والكرم، فيما وصل به إليه من النعم، من مواهبه في العلم وغير العلم، وقد علّم الله رسوله عليه السلام من شرائعه ودينه، وإن لم يكتب بقلم أو بخط كتابا بيمينه، ما جعله الله به - فله الحمد - إماما لكل إمام، كان معه في حياته وبعد وفاته من الكتبة والعلام، فكان بمن الله لكلهم إماما ومعلما، وعلى جميعهم في العلم والحكمة مقدما، وفي ذلك وبيانه، ما يقول الله سبحانه في فرقانه : ? وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ? [العنكبوت: 48]، فكفى بهذا والحمد لله بيانا وبرهانا لقوم يعقلون.
وتأويل: ? كلا ?، فهو: نعم وبلى، ? إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى ? فتأويل يطغى، فهو العتاء والطغاء، وتأويل ? أن رآه استغنى ?، فهو تَكَثُّره بالجدة والغنى، في كل ما رآه فيه من علم ومال، وما يراه مستغنيا به أو مستطيلا به من كل حال.
وتأويل ? إن إلى ربك الرجعى ?، فهو: إلى الله المعاد في قيامة الموتى، ثم قال سبحانه لرسوله، صلَّى الله علَيهِ وعلى آلِه: ? أرأيت الذي ينهى، عبدا إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى ? تثبيتا له عليه السلام وتعريفا، وتبيينا أيضا لمن كفر به وتوقيفا، على ما يعرفون ولا ينكرون، وما هم به جميعا كلهم مُقرِّون، من أنه ليس لأحد أن ينهى عبدا من عباد الله عن الصلاة، والأمر بالتقوى لله.(2/393)