والحنيف: هو الطائع، المستقيم الخاشع، وأمروا أن يصلوا له، فصلوا لغيره معه، فمنهم من صلى لأثرة صنم، ومنهم من صلى لعيسى بن مريم، صلى الله عليه [وسلم]، ومنهم من صلى لمن شبهه بآدم، صلى الله عليه في الصورة واللحم والدم، ومنهم من صلى لمن هو عنده نور من الأنوار، وجسم مسدس المقدار، له - زَعَمَ - جهات ست، خلف وأمام ويمين ويسار وفوق وتحت، فتعالى الله عما قالوا كلهم علوا كبيرا، وجل وتقدس عن أن يكون لنفسه من خلقه مثلا ونظيرا، وكيف يكون عابد ذليل كعزيز معبود ؟! ومن لم يزل دائما مشبها لما كان طوال الدهر غير موجود.
ثم قال سبحانه في دينه وصفته: ? وذلك دين القيمة ?، تأويل ذلك: أن كل ما أمر به فمن الأمور المرشدة الهادية المستقيمة.
? إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ?، فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالله، مع إقرار الفريقين بالربوبية لله، فهم كما قال الله: ? شر البرية ?، بما كان منهم على الله من الدعوى المبطلة المفترية، والبرية: فما ذرأ الله وبرأ، مما يُرَى من الخلق كله أو لا يُرَى. ونار جهنم: فهي النار التي لا يعرف في النيران مثلها، ولا يعلم منها كلها مشبها لها، فيما عظم الله من نارها، وحر استعارها.
وتأويل ? خالدين ?، فهو: غير فانين ولا بائدين، كما قال سبحانه: ? والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ? [فاطر: 36]، فنار جهنم: هي النار المستعرة التي ليس لاستعارها أبدا من انكسار ولا فتور، ولو فترت من استعارها والتهابها، لكان في ذلك تخفيف عن أهلها من عذابها.(2/384)
? والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ? فمن آمن: فهم المؤمنون من كبائر العصيان، والذين لا يُخافون على ارتكاب زور ولا بهتان، ما ثبت لهم أبدا اسم الإيمان، وحُكمُ أهل الهدى والبر والإحسان.
والصالحات من الأعمال، فهي كل صالح عند الله من قول أو أفعال، وجزاؤهم، هو ثوابهم من الله وعطاؤهم.
وتأويل ? جنات عدن ?، هو: جنات مستقر وأمن، وتأويل ? رضي الله عنهم ?، هو: رضى الله سبحانه لهم، ? ورضوا عنه ? فتأويل رضاهم، فهو بما أعطاهم وجزاهم، بأنهم لم يزالوا راضين عنه - جلَّ ثَنَاؤُهُ - في دنياهم، قبل مصيرهم إلى ما صاروا.
ثم أخبر سبحانه لمن جعل جزاه، فقال: ? ذلك لمن خشي ربه ? يعني: لمن خافه واتقاه، فأخبر جلَّ جلاَلُهُ أنه جعل لأهل التقوى الكرامة والرضى، والارتضاء في المعاد والمثوى.
وتأويل ? خالدين فيها ?، فهو: بقاؤهم أبدا بعد المصير إليها.(2/385)
تفسير سورة القدر
بسم الله الرحمن الرحيم
وسألته رحمة الله عليه عن قوله سبحانه: ? إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها ? ؟
فقد يكون أنزلنا: جعلنا، كما قال سبحانه: ? وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ?
[الحديد: 25]، ? وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ? [الزمر: 6].
وتأويل أنزل، في ذلك جعل، فيمكن أن يكون جعل القرآن كله، وأحدثه وأتمه وأكمله، فيما ذكر تبارك وتعالى من ليلة القدر المذكور، والقدر: فهو وقت وَقتَّه الله جلَّ ثَنَاؤُهُ من أوقات الدهور، وقد يكون القدر، هو الجلالة والكبر، كما يقال: إن لفلان أو لكذا وكذا قدرا، يراد بذلك أن له لجَلالة وكبرا، فإن كان وقتا فهو وقت ذكره الله وكرَّمه، بما قدَّر فيه من أموره المحكمة، ومن الأدلة على أن الله جعل القرآن في ليلة القدر كله، وأحدثه فيها فأتمه وأكمله، وأنه لم يرد بتنزيله ووحيه، إنزاله له جملة على رسوله ونبيه، أن الله سبحانه إنما أنزله على رسوله، صلَّى الله علَيهِ وآلِه، وأوحى تبارك وتعالى به إليه مفرقا لا جملة واحدة، وعلمه إياه جبريل صلى الله عليهما سورة سورة وآيات آيات معدودة، ليقرأه كما قال سبحانه على مكث وترتيل، ولترتيله وَصَفَه تبارك وتعالى في الوحي له بالتنزيل ؛ لأن المفرق المنزل، هو المرتل المفصل، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى فيه: ? وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ? [الإسراء: 106]، ويقول سبحانه لرسوله، صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلم في قراءته: ? ورتل القرآن ترتيلا ? [المزمل: 4]، والتفصيل: هو التقطيع والتنزيل.(2/386)
وفي إجماله، وجمع إنزاله، ما يقول المشركون لرسوله، صلَّى الله علَيهِ وعلى أهله: ? لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة ?، فقال الله سبحانه: ? كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ?، يقول سبحانه: نزلناه عليك قليلا قليلا، ثم قال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله: ? ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ? [الفرقان: 32 – 33]، فنحمد الله على ما نوَّر بذلك من حجته بمنه ورحمته تنويرا.
ثم أخبر سبحانه أن قد أنزله، وتأويل ذلك: أن قد جعله الله كله، في ليلة واحدة، فقال تبارك وتعالى: ? إنا أنزلناه في ليلة القدر ? و? إنا أنزلناه في ليلة مباركة ? [الدخان: 3]، فأبطل بذلك كل حجة لمن كفر مظلمة مهلكة، فكان ذلك من قدرته، ما لا ينكره من أهل الجاهلية من أقر بمعرفته.
وقد يمكن أن يكون تأويل ? إنا أنزلناه ? هو: تنزيله سبحانه من السماء السابعة العليا، إلى من كان من الملائكة في السماء الدنيا، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه أن ذلك هو تأويل ? إنا أنزلناه ? وبيانه، فأي التأويلين جميعا تُؤُوِّلَ فيه، وقع بإنزاله كله عليه.
ولو كان إنما أراد بذلك إنزاله على محمد صلَّى الله علَيهِ وعلى أهل بيته وسلم لكان إنما نزل إليه مفرقا ومقطعا، غير مجمل من الله، وإنما قال الله: ? إنا أنزلناه ? فأوقع التنزيل على كله لا على بعضه، وقال لرسوله، صلَّى الله علَيهِ وآلِه: ? إن الذي فرض عليك القرآن ? [القصص: 85] فأخبر سبحانه بفرضه، والفرض: هو التقطيع والتفصيل كما يقول القائل للشيء إذا أمر بقطعه، افْرِضْه وفَصِّلْه ليقطعه.
وتأويل ? إن الذي فرض عليك القرآن ?، هو أن الذي قطَّع تفريقا ما نزل من القرآن إليك، وذلك فهو الله الرحمن الرحيم، وما فرض: فهو كتابه المنزل الحكيم، وأي القولين اللذين ذكرنا، وبينا في ذلك وفسرنا، قيل به فتأويل، وأمر كبير جليل، كريمٌ ذكرُه، واجبٌ شكرُه.(2/387)
وليلة القدر التي نزل فيها القرآن: فليلة من الليالي مباركة، تتنزل الملائكة فيها كما قال الله تبارك وتعالى الروح والملائكة ؛ لبركتها وقدرها، وما عظم الله من أمرها، ? بإذن ربهم من كل أمر ? من أمور الله بنازلة، وبركة لأهل الأرض كلهم شاملة، فليلة ذلك الوقت والخير والقدر، خير كما قال: ? خير من ألف شهر ?، لما جعل الله جلَّ ثَنَاؤُهُ فيها من اليُمن والبركات، وما يمسك الله فيها عمن أجرم من النقم والهلكات، ولما نسب الله إليها، من الخير تنزلت الملائكة والروح فيها، من أعلى العلا، إلى الأرض السفلى.(2/388)